مُنطلَقَاتِ الدَّعوَة
قد ينشط المسلم في دعوة الناس إلى الإسلام، وينهض إلى التعريف بمبادئه واحكامه، ولكنه ما يكاد يسير في نشاطه هذا أياماً أو حيناً من الزمن، حتى تجد أن سعيه قد انقلب الى دفاع عن شخصيته، وخصومة مع منافسيه!. فالاسلام الذي كان يدعو اليه، لم يعد أكثر من أفكار تجسدت فيها شخصيته، فهو إنما يدافع عنها بدفاعه عن تلك الافكار؛ وأولئك الذين كان يدعوهم الى الاسلام، لم يعودوا في اعتباره إلا خصوماً لفكره واعداءاً لشخصيته؛ فهو من خلال نشاطاته معهم انما يحاول ان يشفي غيظه فيهم، بدلا من أن يسعى جهد استطاعته لهدايتهم!..
وتتأمل في علاقة ما بينه وبينهم ـ وقد كانت في بدايتها علاقة دعوة صافية إلى الله ـ فلا تجدها لا مشادة حاقدة من نوع تلك المشادات التي تقوم بين اصحاب المذاهب الفكرية أو السياسية المتناحرة!..وتنظر الى الاسلام الذي يعرضه في خصومته معهم، فلا تجده إلا إسلام فكرة ونظام، مجتثين من كلي الحقيقة الاسلامية المنزلة من لدن رب العالمين الى الناس جميعاً، وهو ارتداء جلباب العبودية لله عز وجل، فهو يقارع بهما الافكار والانظمة الاخرى، مقارعة مغايظة وصراع، في مشادة لا يمكن أن تنتهي إلا إلى مثل ما تنتهي إليه خصومة أي نظامين أو مذهبين متكافئين في ان كلاً منهما ليس في حقيقته اكثر من نظام!.. فماذا عسى أن يكون معنى الغلبة لاحدهما على الآخر، سوى مساعدة الظروف، أو تفاوت كمية القوى ضمن نطاق كيفية واحدة؟.. أي فهي ليست ـ والحالة هذه ـ من نوع غلبة الحق على الباطل، وإنما هي من نوع تلك الغلبة التي لا بد أن ينتهي إليها صراع بطلين في حلبة ملاكمة أو مصارعة حرة.
وأنا لست اتخيل هذه الصورة في ذهني، ولكني اصفها كما هي، في حال كثير ممن يمارسون الدعوة الى الاسلام في مجتمعنا اليوم.
فما هو سبب ذلك؟
ليس لذلك من سبب سوى أن هؤلاء الاخوة لم يضبطوا انفسهم بالمنطلقات التي تنبثق اعمال الدعوة الاسلامية ـ في واقعها الحقيقي ـ منها، ثم تظل سائرة على سننها منضبطة بتوجيهها.
وما هي هذه المنطلقات؟.. سأحاول تلخيصها في النقاط التالية:
...
المنطلق الأول: ويتمثل في معرفة أن أعمال الدعوة الاسلامية ليست في حقيقتها إلا عبادة يؤدي بها المسلم حق الله تعالى في عنقه، ويتقرب بها الى مرضاته.
إذ إن المسلم لا يندفع إليها، في الحقيقة، لهوى في نفسه، أو لرغبة شخصية في العلو والانتصار على الآخرين؛ بل ينقاد اليها بدفع من قول الله عز وجل: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) آل عمران١٠٥.
وأملا في الدخول فيمن وصفهم الله تعالى بقوله: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) فصلت:٣٣
ورغبة في أن يدرك ذلك الأجر العظيم الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: لأن يهدي بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس. وفي رواية: خير لك من حُمر النعم، متفق عليه.
فإذا نهض المسلم باعباء الدعوة إلى الاسلام، من منطلق هذه الأوامر الربانية، يمارس بذلك عبادة من أعظم العبادات، أملاً في أن يدخله الله بها في كنف رحمته ورضوانه، وأن يكتبه واحداً من الصديقين من عباده، لا يقصد بها وجهاً غير وجه ربه، ولا أجراً غير أجره ـ أقول: إذا نهض المسلم باعباء الدعوة من هذا المنطلق، واستقام على نهجها، تحقق له من ذلك ضمانتان اثنتان:
الضمانة الاولى: أن شيئاً من الرعونات النفسية أو الحظوظ الشخصية لن تهيج بين جوانحه، وإن أحس بها تحركت لتهتاج، قاومها بشعور أنه ماثل في محراب العبودية لله عز وجل، وأنه لا يبتغي من سعيه هذا إلا بلوغ مرضاته عز وجل، فما هي إلا أن تختفي وراء طمأنينة النفس وسكينة القلب، ويصفو عندئذ لهذا الداعي سبيل الدعوة إلى ربه خالياً عن الشوائب نقياً عن كدورات الاهواء، فلا تحجزه عن عباد الله عز وجل، أن يسمعوا نبضات الاخلاص في دعوته، حواجز الشخصية أو حجب الانانية وحب الذات، ومن شأن هذا الداعي الذي انطلق في دعوته الى الله من هذا الاساس، أن يلتجيء الى مختلف العلاجات الواقية، كلما شعر بغوائل النفس ودسائس الانانية، تتسلل إلى مكمن القيادة القلبية في عمله، كالاكثار من ذكر الله عز وجل بقلب حاضر غير غافل، والاكثار من تلاوة القرآن بتدبر، والالتجاء الى الله بالدعاء الضارع أن يقيه من حظوظ نفسه.
ومعنى هذا، أن غوائل النفس وحظوظ الشيطان، لن تموت في شعور الانسان، ولكنها تقبع في زاوية من الكيان الانساني، بعيداً عن التأثير عليه، كما كان الانسان مراقباً لها متحفزاً لمقاومتها بذكر الله عز وجل وما يتبعه من العلاجات الواقية. ألم تسمع قول الله عز وجل:
(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون) آل عمران:١٣٥.
وقول الله عز وجل: