للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الشّرُوط الأوليَّة لِسَلامة الدّعوَة

يمكننا أن نلخص هذه الشروط في الأمور الثلاثة التالية:

الشرط الأول: أن يتحقق الإسلام الصحيح في شخص الداعي اليه.

وضرورة هذا الشرط من الوضوح بمكان، فكلنا يعلم أن فاقد الشيء لا يعطيه. ولن نتحدث في هذا الصدد، عن إنسان لم يقبل الإسلام له ديناً، فمن المتفق عليه أن هذا الإنسان، إن دعا إلى الإسلام، فلن يأتي من دعوته بأي طائل، بل من المقطوع به، أنه لن ينهض بأي دعوة حقيقية إلى مبدأ لا يدين هو نفسه به.

ولكن المهم في هذا الصدد، أن نتسائل عن قيمة الدعوة إلى الإسلام، إذ ينهض بها مسلم غير ملتزم بأحكام الإسلام وآدابه، أو ينهض بها مسلم ملتزم بأحكام الإسلام، ولكنه لم يخلص لله عز وجل في هذا الالتزام أو في هذه الدعوة.

فلتعلم أن المسلم الذي لا يلتزم جهد استطاعته بأحكام الإسلام، أو يلتزم ولا يكون مدفوعاً إلى ذلك طلباً لمرضاة الله تعالى وحده، لا يكون عمله في الدعوة، إن هو قام بها، إلا كمن يفتح صنابير مياه على حوض ترك مصرف المياه مفتوحاً في قعره. قد يتجمع شيء من الماء فيه، ولكنه آيل إلى الذهاب والضياع.

ولكن كيف ذلك؟ ولماذا؟

إن الدافع الذي من شأنه أن يهيًج المسلم وينهضه إلى دعوة الناس إلى الإسلام. هو بذاته الدافع الذي من شأنه يهيجه إلى الالتزام بأحكامه وآدابه، والاخلاص في ذلك لوجه الله وحده.

ومن هنا يتحقق التلازم بينهما، نظراً إلى أنهما فرعان لأصل واحد، فلا يتحقق الأصل بدونهما، ولا يتحقق واحد منهما بدون الآخر.

فإن رأيت ـ مع هذا ـ إنساناً نشيطاً في القيام بأعباء الدعوة إلى الله تعالى، ولكنه متهاون في أمر نفسه وإلزامه إياها بأحكامه وأوامره عز وجل، فاعلم أنه مدفوع إلى نشاطه هذا بدافع آخر، غير ذلك الأصل الرباني الذي إذا وجد، لا بد أن يتفرع عنه كل من الالتزام الصادق المخلص في النفس، والدعوة إليه في صفوف سائر إخوانه وأصحابه.

وما أكثر الدوافع الأخرى التي تحمل صاحبها (والحالة هذه) إلى نشاط عجيب في حقل الدعوة الإسلامية، قد يذهب براحة جسمه وبالكثير من حظوظ نفسه. كتعلقه بالزعامة، أو السعي وراء مصلح، أو طلب لثناء، أو تسخير الدين لمئرب من المآرب!.. فإن هذه الدوافع وأمثالها إذا استحكمت بالنفس، هيجت صاحبها إلى نشاطات قاسية ومضنية، يتحملها، وهو جزلان، تعلقاً بالآمال التي يترقبها فيما بينه وبين نفسه.

وأياً كان، فإن شيئاً من عمل مثل هذا الداعي لا يأتي بثمرة حقيقية باقية، بل ربما لا يترك، على المدى البعيد، إلا آثاراً عكسية تسيء ولا تصلح، وتبعد ولا تقرب!..

ثم إن علينا، بعد هذا، ان نتساءل: ما هو الإسلام الذي يجب أن يلتزم به الداعي إلى الله، هذا الالتزام ويخلص له هذا الإخلاص.

أو مذهب يقارع غيره، أم هو نظام ينافس الأنظمة الأخرى، أم هو يمين في مواجهة يسار أو يسار في مواجهة يمين؟

ليس الإسلام شيئاً من هذا ولا ذاك. ولكنه، كما يدل عليه اسمه، الاستسلام المطلق لألوهية الله تعالى وحده، ثم الانصياع، بناء على ذلك، لأمر ونهيه وقضائه.

ولا يرتكز أساس هذا الإسلام إلا إيماناً كاملاً في القلب.

ولا يعمر الإيمان الحقيقي القلب، إلا بعد خلوه عن الأغيار، وتزكيته عن الاقذار، وانقطاع علائق الشهوات والأهواء عنه.

وتلك هي التزكية التي عبر عنها البيان الإلهي بقوله عز وجل: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها (١) [٢] .

وبقوله تعالى: ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (٢) [٣] ، وبقوله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (٣) [٤] .

وهي المقصود بالصلاح في قوله عليه الصلاة والسلام: ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.

هذا الإيمان الذي يجب أن يتربع قبل كل شيء، في حيز الفؤاد كله، نقياً من الأدران، هو ينبوع الإسلام وروحه، وهو الهواء الذي يتنفس به ويعيش عليه.

فإذا استقام الإيمان على هذا النحو، في الفؤاد، خالياً عن الزغل، نقياً عن الأدران ـ تحققت مظاهر الاستسلام كلها في كيان الإنسان لأوامر الله ونواهيه وسائر أحكامه بدون عظيم جهد ولا طويل عناء.

وإنما الذي يستنفد من الإنسان الجهد والشدة، تحرير القلب من علائق الدنيا وأهوائها، والارتفاع به إلى مستوى الطهر والصلاح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي به إلى حالة لا يغشيه شيء من آفات النفس الأمارة بالسوء، بل يعود مرآة صقيلة يتجلى فيها شهود الخالق عز وجل وحده. فإذا عبده صاحب هذا القلب، تجلى له شهود الحق من مشكاة قلبه، فإذا وكأنه يرى الله، لا يحجبه عن هذا التجلي شيء من ملهيات الدنيا وأهوائها وآفات النفس ورذائلها.

ومن هنا كان قوام الدين الحق الذي ألزم الله به عباده، مكوناً من ثلاثة أركان: إيمان، وإسلام، وإحسان.


(١) سورة الشمس:٩
(٢) سورة فاطر: ١٨
(٣) سورة الشعراء:٨٩

<<  <   >  >>