فأما إذا كان مّوقناً بجميع المبادئ الاعتقادية للإسلام، ولكنه شارد عن أن يضبط نفسه بالسلوك الذي أمره الله به. فاعلم أنه مصاب بمشكلات نفسية تعيقه عن السلوك الصحيح وإن لذلك علاجاً آخر سنأتي إلى ذكره إن شاء الله بعد قليل.
٢ـ يجب ـ إلى جانب ما ذكرنا في البند الاول ـ التحاكم لإقناع هذا الجاهل أو المنكر، إلى البراهين المنطقية والعلمية الصافية، ووضعها وحدها مجردة عن أي شائبة أخرى، ميزاناً لكل ما يجب أن نؤمن به.
كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار نوع الشبهات والمشكلات المتحكمة في ذهن هذا الذي نحاوره ونباحثه، فلا نعرض عنها سلفاً بحجة أنها شبهات باطلة لا قيمة لها. فهذه دعوى لا تثبت وما ينبغي أن تثبت إلا بعد عرض الدليل العلمي على أنها حقاً شبهات باطلة.
وهذا يضطر كل من ينهض لهداية الناس اليوم ولدعوتهم إلى الله، أن يكون ملماً بكل العلوم المختلفة التي يمكن أن يكون لها مدخل إلى إثارة شبهات تتعلق بعقائد الإسلام. ومن أبرزها المذاهب الفلسفية المختلفة بما لها أو لبعضها من جذور يونانية، والتاريخ الطبيعي، وعلوم الاجتماع، وعلم النفس ... ألخ.
ولا جدوى مع من تسللت إلى فكره شبه من بعض هذه الفلسفات والعلوم المختلفة، أن تلزمه بمنهج القرآن وتنبهه إلى كوامن الهداية، والاعجاز فيه، ثم تعرض عما جاء يشكو إليك من شبه ومشكلات خاصة لا يقوى على التخلص منها.
ولتعلم أن في انصرافك معه إلى مشكلاته الفلسفية أو العلمية المختلفة، تشرحها، ثم تبين بطلانها، بموازين علمية صافية، تنفيذاً لأمر الله عز وجل إذ قال في محكم تبيانه: أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.
فأي معنى يستقيم للجدل، إن لم يكن أخذاً ورداً معهم بصدد المشكلات أو الشبه التي تتراءى لهم؟ فأنت ترى إذن أنك لا تخرج عن المنهج القرآني قيد شعره، ما دمت ملتزماً بمضمون هذه الآية العامة، قاصداً وجه الله عز وجل في الأخذ بيد إخوانك إلى صراط الله عز وجل، مستعملاً في ذلك الوسيلة العلمية المفيدة التي يتطلبها حال هؤلاء الاخوة.
,إنما انبثق علم الكلام في تاريخ المسلمين من هذه الضرورة ذاتها، ولولاه لكانت عقول أكثر المسلمين اليوم فريسة للفلسفة اليونانية والفلسفات المشابهة الأخرى.
...
وأما ما تقتضيه ضرورة الاستجابة للحقيقة الثانية فيمكن تلخيصه هو الآخر فيما يلي:
١ـ لا بد من ملاحظة الفرق بين من وظيفته إرشاد الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، ومن وظيفته الجلوس للفتيا وبيان أحكام الحلال والحرام.
أما الداعي إلى الله تعالى فعمله يستهدف غاية شاملة كبرى، تتمثل في انصياع العقول إلى الحق وفي إنسجام النفوس معه انقياده له، وما التزام الأحكام الشرعية إلا جزء يسير من هذه الغاية الكبرى.
وأما المفتي فوظيفته أن يجيب الناس، إذا سألوه، عن مقاطع الاحكام والحقوق، تعليماً وتبييناً، لا إرشاداً وتوجيهاً.
فإذا تبين لك هذا الفرق، فإن على الداعي إلى الله عز وجل، ألا يحصر نفسه أثناء ممارسته لوظائف الدعوة وأعمالها في مهمة المفتي. وأن يوجه الناس إلى الالتزام بالأحكام. من خلال طريق عريضة تتسع للمرونة والحكمة في معالجة الأمور.
وليس معنى هذا الكلام للداعي أن يتلاعب بأحكام الحلال والحرام، حسب ما يرى أنه المصلحة، من حيث يضبط المفتي نفسه بها دون أن تبديل أو تغيير.
إن التلاعب بالاحكام لا يجوز الإقدام عليه لأحد، مفتياُ كان أو غيره من الناس، ولكن على الداعي أن يقدر مع صعوبة انتقال الإنسان طفرة من منتهى التفلت والشرود إلى كامل الالتزام والانضباط بالاحكام، فيعالج ذلك بالحكمة التي لا تلجئه إلى التلاعب بالأحكام، ولا تحسبه فيما يشبه وظيفة المفتي إذ يرى أن كل ما هو مكلف به أن يقدم للناس قائمة دقيقة تتضمن أحكام الحلال والمحرمات والواجبات.
وعلى سبيل المثال: إن الفتاة التي تأثرت بسماع كلمة الحق عقلاً ووجداناً، فأخذت تنقل نفسها شيئاً فشيئاً إلى صراط الالتزام بأحكام الله عز وجل، لا يجوز في نطاق الدعوة وسياستها ـ لمن رآها في اوائل الطريق أو منتصفه، أن يجمع سائر الواجبات التي لم تلتزم بها بعد، فيجعل منها مشكلة يضعها أمامها، أو عبثاً يلقيه مرة واحدة على كاهلها. بل الواجب عليه العكس: أن يهيئها بما قد وصلت إليه من الالتزامات والانجازات، وأن يذكرها بعظيم مالها من أجر عند الله عز وجل على ما قد حققته من ذلك، ثم ينبهها إلى أن الطريق طويل أمامها بعد، وأن يحفزها الى المتابعة، بالأسلوب الذي سنشرحه بعد قليل.
سألتني فتاة، وقد فرحت أنها استطاعت بعد طول شرود، أن تستر أكثر شعرها بخمار وضعته على رأسها، وأن تجعل ثيابها أكثر ستراً وحشمة من قبل: أصحيح أن الله لا يقبل مني شيئاً من أعمالي مادمت غير ملتزمة بالستر الكامل؟