للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقلت لها: ثقي بأن الله تعالى لو لم يكن أراد بك الخير والتوفيق لما يسر لك سبيل هذا الإيمان به، ولما أعانك على تحقيق هذه الخطوة التي لن ينقص من أجرها شيء، ما دمت سعيت إليها رغبة في تحقيق مرضاة الله عز وجل. وكوني على يقين بأنك بمقدار ما تقبلين الى الله تعالى بتطبيق المزيد من أوامره، يقبل إليك بمزيد من الأجر والهداية الاسعاد في الدنيا والآخرة.

إنني لم أغير شيئاً من أحكام الله تعالى بهذا الكلام، ولكني لم أقف أيضاً موقف المفتي الذي لا يعنيه أكثر من أن يذكر حرمية الحكم الشرعي، فلهذا الموقف مجال آخر. واشعرتها بالغبطة لما وفقها الله إليه، أكثر من أن أشعرها بما ينتظرها من العقاب إن هي لم تبادر إلى تدارك النقائص في أقرب حين.. وذلك هو هدي سيدنا رسول الله في إرشاد الناس ودعوتهم إلى التقيد بأوامر الله عز وجل.

وعلى سبيل المثال أيضاً: افرض أن مسلماً هدى الله به شاباً على يديه، فآمن بعد جحود، أفيكون من حق مرشده هذا أن يضعه بعد ذلك مباشرة أمام قائمة الالتزامات كلها، وأن يلزمه بعزائم الأمور؟..

الحقيقة أن إلزامه بذلك كله ليس من الحكمة التي أمر الله تعالى أن تقوم الدعوة على أساسها، حتى وإن أظهر الشاب نفسه نشاطاً وجلداً في تحمل ذلك كله.

ذلك لأن الشاب يشعر إبان يقظته العقلية بشدة بعده عن الحق والطريق السوي السليم، فيندفع بعقله إلى الالتزام بما قد آمن به، ولكن عواطفه كلها تكون آنذاك ملكاً لرغائبه وشهواته النفسية. فربما اندفع إلى مغالبة هواه وقهر جموحه الشهواني، بتحميس مرشده له وبدافع اليقين العقلي الذي اكتسبه، وكلما أزداد تحملاً للأعباء التكليفية وتمسكاً بعزائم الأمور، ازدادت حواجز التمرد النفسي بين جنبيه.

وهو يضغط خلال ذلك على هذه الحوافز المعتلجة وراء صدره.. وما يدري أنه علاج مسكت موقوت، ما دامت اليقظة العقلية لم تصطحب معها تزكية نفسية!.فما هو إلا تتفجر هذه الحوافز لديه ذات مرة بثورة نفسية عارمة يضيع فيها رشد العقل ويذهب سلطانه، فيعود الشاب إلى شر من ماضيه الذي كان عليه من قبل.

وإني لأعلم شباباً كثيرين اغتبط مرشدوهم بهدايتهم العقلية، فأخذوا يحملونهم العزائم ويكلفونهم بالانعتاق السريع المطلق عن كل ما اعتادوا عليه من السلوك وأساليب العيش، وبحمل أثقال الواجبات والآداب المختلفة. فما شدوا أنفسهم تحت ذلك العبء إلا أياماً يسيرة، ثم ما هو إلا أن ارتدوا على أعقابهم، كما ترتد قطعة من المطاط شددتها إلى أقصى ما يمكن، ثم أرخيت يدك عنها!..

ولكن هل يعني هذا الذي أقوله، أن على المرشد او الموجه، أن يترك الإنسان الذي هداه الله تعالى إلى معرفة الحق وإلى الإيمان به، عند الحدود التي وصل إليها، وألا يبالي بسلوكه وبالمعاصي التي يقترفها في جنب الله عز وجل؟

لا.. ليس هذا ما أعنيه بالكلام الذي ذكرته الآن.

إن الذي عنيته أن طريق الدعوة إلى تقويم السلوك، غير طريق الدعوة إلى معرفة الحق. فلا يظن، الداعي او المرشد، أنه وقد أقنع صاحبه بحقائق الإيمان عن طريق المحاكمة العقلية وعوض الحجج والبراهين، يستطيع أن يحمله بالطريق ذاته على الالتزام بالأوامر واجتناب النواهي، وأن الأمر سيكون من السهولة، كمجيء النتائج بعد المقدمات!..

إن هذا التصور خطأ كبير. فإن هناك حواجز وعقبات نفسية كبرى، تصده عن النهوض بواجبات السلوك الإسلامي، على الرغم مما انتهى إليه من اليقين الاعتقادي.

لذا، فإن على الداعي أن يسلك سبيلاً اخرى مع صاحبه، في مرحلة تقويم السلوك، وهذه السبيل هي التي سنلخص الحديث عنها بانتقالنا إلى الأمر الثاني:

٢ ـ على الداعي إلى الله تعالى ألا يلزم صاحبه وقد هداه الله عز وجل إلى معرفة الحق واليقين به بشيء من الواجبات السلوكية، بشكل مباشر، إلا ما كان داخلاً في أركان الإسلام، وهو الصلاة والصوم، ثم الزكاة والحج إن كانا واجبين عليه.

فالصلاة ثم الصيام إذن، هما اللذان يجب على المرشد أو الداعي، أن يأخذ صاحبه بهما مطلقاً، وبشكل مباشر.

وأما بقية الواجبات والآداب السلوكية المتمثلة في تطبيق الأوامر وتجنب النواهي، فلتعلم أن سبيل دفع هذا الإنسان إليها إنما بتوجيه إلى ما يلي:

أـ تكليفه بإقامة الصلوات مع الجماعات ما أمكنه ذلك، وتبصيره بآداب الصلاة من خشوع فيها، وسنن من قبلها ومن بعدها، وبأهمية الدعاء يتوجه به إلى الله عز وجل بعد ذلك. وقد علمت أن الصلاة هي أول ما ينهي صاحبه عن الفحشاء.

ب ـ إلزامه بوظيفة دائمة من تلاوة القرآن، (بعد إتقان تلاوته سماعاً على أحد المتقنين لتلاوته، في كل يوم، ولتكن كمية ذلك حسب المستطاع) ، ومن دراسة السيرة النبوية.

ج ـ أخذه بورد بسيط من الأذكار يؤديه في أوقات فراغه ويفضل أوقات البكور والآصال. بعد أن يبصر بمعنى الذكر الذي طلبه الله تعالى من عباده، وبالآداب التي يجب أن يلتزمها أثناء الذكر. ويستحسن توصيته بالإكثار من الاستغفار ومن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

<<  <   >  >>