للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لم يخالف في هذا القدر المتفق عليه إلا فئة واحدة، هي فئة الخوارج الذين انفردوا وشذوا عن الإجماع بتكفير المسلمين بارتكاب كبائر الذنوب.

وعلى هذا، فإن الإعراض عما أجمع عليه السلف من أئمة المسلمين بدءاً بعصر الصحابة، فمن دونهم، ثم من دونهم، في تفسير هذه الآيات الثلاث، واختلاق تفسير جديد لها، يقضي بأن كل من لم يحكم بما أنزل الله، فهو كافر مطلقاً ـ جنوح عن واجب الالتزام بالقواعد المعروفة والمتفق عليها في تفسير القرآن، ولن تجد له من مسوغ إلا تحكيم الأهواء في كتاب الله عز وجل.

إذا تبين هذا، فإننا ننظر في حال من قضى في أمر بغير شرع الله جل جلاله، فإن ظهرت لنا من قوله أو حاله دلائل قاطعة على جحوده بشرع الله عز وجل، أو على احتقاره له، وكان الحكم متعلقاً بواحد من أركان الإسلام أو مما عرف من الدين بالضرورة. فإن ذلك يعد مكفراً، ويكفر المتلبس بذلك الفعل، سواء كان والداً في أهله، أو عضواً في جمعيته، أو عاصياً في حق نفسه، أو قاضياً في محكمته، أو حاكماً في دولته. دون أي تفريق.

أما إن لم تظهر لنا دلائل قاطعة على جحوده أو تحقيره، أو كان الأمر متعلقاً بحكم غير معروف من الدين بالضرورة، بأن كان قابلاً للاجتهاد أو خفياً لا يعلمه إلا أصحاب الدراية والاختصاص. فإن مجرد تصرفه هذا لا يخولنا أن نحكم بأكثر من عصيانه وفسقه.

فليتق الله أولئك الذي يجازفون في إقامتهم أنفسهم مقام الله عز وجل بتكفير كل من لم يحكم بما أنزل الله، دون رجوع إلى ضوابط ذلك من أدلة العلم وقواعده، وليتهموا أنفسهم بالانسياق وراء غيظ لا يحكمه منهج الإسلام وضوابطه، ولا يقصد به وجه الله وحده.

ومن أوضح ادلة هذا الاتهام، أنهم لا يتصورون للحكم بغير ما أنزل الله إلا مدلولاً واحداً، هو دون غيره محط تكفيرهم، ألا وهو أن يقضي الحاكم الأعلى في قومه أو شعبه، فيتنكب في حكمه عن شرع الله عز وجل.

أما ما ينجرف فيه عامة الناس في بيوتهم ومع أهليهم أو اصدقائهم أو في مجتمعاتهم، من المعصية ذاتها، إذ يبرمون أمورهم أو أمور من يهيمنون عليهم على خلاف شرع الله عز وجل ـ فهؤلاء كلهم مبرؤون عن جريمة الكفر والارتداد ولا يدخلون تحت طائلة الحكم بغير ما أنزل الله!..

لماذا؟ .. وكيف انبثق هذا الفرق؟.. لا ندري.

وإني لأذكر عهوداً مرت على هذه البلدة، تربع فيها على كرسي الحكم، ووزارة العدل، رجال لا نزال نشهد لهم بالدين والإسلام، ويشهد لهم قبلنا، هؤلاء المكفرون أنفسهم، وكانت أقضيتهم وأحكامهم هي هي، كالتي كانت من قبل، والتي استمرت فيما بعد، احكاماً بغير ما أنزل الله، في أكثر المسائل والأمور، فهلاً حكموا بكفرهم وارتدادهم كحكمهم في حق الذين كانوا قبلهم او الذين جاؤوا من بعدهم؟ وأي فرق من النقص هنا والفضل هناك، حتى يتهم بالكفر هذا دون ذاك؟

إن كان المحكم في الأمر هو شريعة الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة لنا في الأمر، فإليك خلاصة هديه صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة:

روى الشيخان عن عبادة بن الصامت أنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعنا، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومطرنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.

وروى مسلم وأحمد وابن ماجه وأبو داود عن أسامة بن زيد، قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الرقات من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك.

فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت على قلبه حتى تعلم اقالها أم لا؟ فما زال يكررها، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.

صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الله كان قد أعلمه بنفاق المنافقين المتظاهرين بالإسلام بين أصحابه، ومع ذلك فقد كان يأبى إلا ان يعاملهم معاملة المسلمين، وياخذهم بظاهر أحوالهم.

وقد طلب منه عمر بن الخطاب أن يأذن له بقبل عبد الله بن أبي بن سلول فلم يأذن له. وجاء عبد الله بن أبي بن سلول يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبل أبيه، لما بدر منه من مظاهر النفاق في غزوة المريسيع، فأبى صلى الله عليه وسلم وقال له: بل نترفق به ونحين صحبته، هذا كله في حق من أعلمه الله بطوياتهم ودخائل نفوسهم، فكيف بمن لا سبيل لنا إلى إختراق قلوبهم ومعرفة ما استكن فيها مما قد يخالف ظاهرهم؟.

وكان صلى الله عليه وسلم يلزم أصحابه إذا حكموا أن يحكموا بما ظهر لهم وأن يكلوا بواطن الأمور إلى الله عز وجل.

هذا كله إلى جانب ما رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا كفّر الرجل أخاه، فقد باء بها احدهما.

<<  <   >  >>