فالذي يقضي بخروج زوجته أو ابنته البالغة سافرة غير محتشمة بستر الإسلام. يحكم بغير ما أنزل الله، والذي يقضي بإقامة منكر من المنكرات في داره يحكم بغير ما أنزل الله، وأعضاء الجمعية السكنية الذين يقررون التعامل بالربا لمشروعهم السكني يحكمون بغير ما أنزل الله، والقاضي الذي يقضي في مسألة بغير ما أمر الله به يحكم بغير ما أنزل الله. والحاكم الذي يصدق ما أبرمه هذا القاضي، يحكم بغير ما انزل الله.
كل هؤلاء الناس، وأمثالهم ممن لم نطل في ذكر أمثلتهم، يحكمون بغير ما أنزل الله، ولن تجد أي موجب للتفريق بين بعض وآخر.
فلنعد الآن إلى سؤالنا: هل يدخل هؤلاء الناس بموجب تصرفاتهم هذه في دائرة الردة والكفر، ويخرجون عن رتقة الإسلام؟
الجواب ان هذه التصرفات بحد ذاتها ليست داخلة في النوع الأول من المكفرات وهو الاعتقادات. بل هو لا يعدو أن يكون أقوالاً وأفعالاً.
وهي لا تدخل أيضاً في النوع الثاني، ولا في النوع الثالث من المكفرات. كما هو واضح لدى المقارنة.
إذن، فإننا ننظر: فإن اقترن بحكم هؤلاء الناس بغير ما أنزل الله، برهان قطعي على الإنكار والجحود الاعتقادي، أو على السخرية والازدراء، وكان الحكم متعلقاً بشيء من أركان الإسلام الخمسة أو بما هو مجمع عليه ومعروف من الدين بالبداهة والضرورة فإن ذلك يكون مكفراً، ويكفر صاحب هذا الفعل أو التصرف، أياً كان.
أما إن لم تقترن بتصرفاتهم براهين قاطعة على شيء مما ذكرنا، فإن الأمر يحتمل عندئذ أن يكون مدفوعاً إليه بدافع التهاون، أو الانسياق وراء الأهواء والأماني النفسية، لا بدافع الجحود والإنكار. وإذا قام الاحتمال سقط الاستدلال، ولم يجز الحكم بالتكفير.
هذه خلاصة الجواب.
وعلى هذا، يتبين لنا أنه لا يجوز تكفير أحد من المسلمين الذي نراهم يبرمون أمورهم أو أمور الناس على غير ما تقضي به شريعة الله، لمجرد تلبسهم بذلك، سواء أكانوا يفعلون ذلك تحت قوس القضاء أو في بيوتهم وبين أهليهم، أو في أنظمتهم وأحوالهم الاجتماعية الضيقة.
ويتمسك أولئك الذين يستمرئون الحكم بتكفير الناس، بقوله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. الآيات (٤٨و٤٩و٥٠)
فاعلم أن هذه الآيات الثلاث نزلت باتفاق المفسرين وائمة الحديث في حق يهود تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إقامة حد الزنى على امرأة زنت، أو في حق يهود جلدوا.. حيث كان يجب الرجم، فاستحلف أحدهم أهذا هو حكم الله فيما تعلمون؟ فأقر بأن اليهود غيروا وبدلوا.. روى ذلك على النحو الثاني مسلم في صحيحه، وأحمد، وأبو داود، وابن جرير، كلهم عن البراء بن عازب. ورواه على النحو الأول مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأبو داود عن زيد بن أسلم عن أبن عمر، والزهري مرسلاً،وغيرهم.
ثم إن العلماء اختلفوا في قوله تعالى في آخر الآيات الثلاث: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون.. الفاسقون.. هل المقصود به اليهود الذين أنزلت الآيات في حقهم، أم المقصود بها الناس جميعاً ممن يدخلون في عموم الوصف والمناط؟
ردد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الاحتمالين:
أن يكون المقصود به عموم الناس لا خصوص اليهود، وصرف عندئذ وصف الكفر إلى من لم يحكم بما أنزل الله جحوداً، ووصف الظلم والفسق إلى من أقر به ولكنه تركه تهاوناً أو لهوى في النفس.
وأن يكون المقصود به اليهود دون غيرهم، وعندئذ يكون كل من وصف الكفر والظلم والفسق خاصاً بمن نزلت الآية في حقهم ومتضمناً للقاسم المشترك الذي هو معنى الكفر. ثم اختار، بعد هذا الترديد أن المراد بهذه الأوصاف الثلاثة أهل الكتاب الذين نزلت الآيات في حقهم، أو من لم يحكم بما أنزل الله جحوداً به وإنكاراً له من سائر الكافرين.
روى ذلك ابن جرير وغيره عن علي بن طلحة عن ابن عباس.
وروى عن ابن عباس أيضاً، وجابر بن زيد وابن شبرمة والشعبي، أن الوصف بالكافرين في الآية الأولى ينصرف إلى المسلمين، والوصف بالظالمين في الثانية ينصرف إلى اليهود، والوصف بالفاسقين في الثالثة ينصرف إلى النصارى. قالوا ووصف المسلمين هنا بالكفر ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر (١) [١٢] ،
إلا ان يحكم بغير ما أنزل الله جحوداً به، فهو عندئذ الكفر الحقيقي الذي هو الردة.
فإذا تأملت فيما نقلناه، من أقوال الأئمة في المقصود بهذه الجمل الثلاث المتكررة،٠وهو خلاصة كل ما قد قاله العلماء في ذلك علمت أنهم جميعاً متفقون على أن المسلم لا يجوز أن يحكم بكفره بمجرد حكمه بغير ما أنزل الله. سواء ذهبنا إلى أن هذه الجمل الثلاث خاصة بمن نزلت الآيات في حقهم، او عامة لسائر الناس. وإنما مناط الكفر هنا على كل حال الجحود والإنكار، كما قد رأيت.
(١) ١٢] أي هو الكفر بمعنى جحود النعمة.