وينشيء بعدهم قرنًا آخرين. يخشى سطوه على المسيئين، ويرجى عفوه للمنيبين. لا يني لطفه في اصطفاء الأخيار، ولا ينثني بأسه عن إرداء الفجار. يحاسب في اليسير والكثير، ويجازي بالكثير على اليسير. تعنو لعزة وجهه الوجوه، ولا يحمد غيره على المكروه. لا يعذّب قبل التحذير وتقدمة النذير، ولا يعزب عن علمه عظيم ولا حقير، ولا يخلو عن فضله صغير ولا كبير. لا يفارق حمده بالنا وفكرنا، ولا يزايل شكره مقالنا وذكرنا. شاهدين بأنه بادئ الأديان وخاتمها، وفارض الأحكام وحاتمها. ورادع أهل الزيع بعقوباته عن جهالتهم، ووازع أولي الضلال بحدوده عن ضلالتهم. جاعل محمد سراج هذا العالم، وسيد ولد آدم، وباعثه بالقول الصادق، والوعظ الصادع، والهدي الساطع، والسيف القاطع. فجاهد في ذاته حتى لان الأبي، ودان العصي، وهان القوي، واستكان الغوي، فصلى الله عليه وعلى آله الذين ما غيّروا ولا بدّلوا، الذين قضوا بالحق وبه عدلوا".
(٤) منهجه في تفسير الحديث
لما ذكر بيان الحق في مقدمة الكتاب موارده في غرائب الأصمعي وغيره قال: "وانتخبت من فوائدهم، واستعذبت من مواردهم، ما حقه أن يكتب بالتبر على الأحداق، لا بالحبر على الأوراق. وتصرفت في التأويلات بين الإيجاز والإعجاز".
فدلّ من منهجه في كتابه على أمرين: اختيار الفوائد من الموارد المذكورة، ثم اختصارها بغاية الإيجاز. ولعلّ قوله "بين الإيجاز والإعجاز" هو الذي قرأه ياقوت فقال في ترجمته: "وقد ادّعى الإعجاز في بعض تصانيفه" (١). وهو يقصد كتاب جمل الغرائب هذا، فإنه لم يذكر من مؤلفاته إلا كتاب إيجاز