وربما تصدَّى بعض خطبائهم لتعليم الفتيان كيف يخطبون، يقصُّ علينا صاحب (العِقْد الفريد) أنَّ بِشْرَ بنَ المعتمر مَرَّ بالخطيب إبراهيم بن جَبَلة السَّكونيِّ وهو يعلِّم فتيانَهم الخطابة، فوقف بشرٌ يستمع ثم قال لهم: اضربوا عما قال إبراهيم صَفْحًا، واطووا عنه كَشْحًا، ثم دفع لهم صحيفةً من تَنْمِيقِه تحتوي شيئًا من آداب الخطابة.
والخطابة كسائر الصناعات يتفاوت الناس في إتقانها والأخذ بزمامها؛ فمنهم مَنْ يمتلكها في أَمَدٍ قريبٍ، ومنهم مَنْ يحتاج إلى أن يصرف في مزاولتها زمنًا بعيدًا، وقد كان أهل الأدب يقولون: إنهم لم يروا قطُّ خطيبًا بلديًّا إلا وهو في أول تكلُّفِه للخطابة مُستثقَلاً، إلى أن يَتوقَّحَ وتستجيبَ له المعاني، ويتمكَّنَ من الألفاظ، إلا شبيب بن شَيْبَة، فإنَّه بدأ بحلاوةٍ ورشاقة، وسُهولة وعُذوبة.
وإذا كانت الخطابةُ صناعةً تتعاصَى على طُلابها إلا أن يأتوها عن طريق الدُّرْبَة والممارسة، فمن اللائق برجالٍ يتقلَّدون في هذه الأمة أَمْرَ التعليم، أن يفرِضُوا لها من أوقات الدراسة نصيبًا كافيًا، حتى تُخرِجَ لنا هذه المعاهدُ والمدارسُ خطباءَ يقودون الأمة إلى حيث تلقى السِّيَادة والعَظَمة.