قد يعرِض للخطيب وإن كان ذا عارضةٍ قويةٍ ما يسمونه إرتاجًا، وهو أن يقف فتنقطعُ عنه مذاهبُ القول فلا يدري أين يضعُ كلامَه، ومن أسباب الإرتاج: الدَّهَشُ والانبهار الذي يأخذ النفس من هيبة الملأ العظيم، أو هيبةِ الرجل الذي شأنُه أن يَنقُدَ الأقوال بعَقْلٍ موزون. وحال الدَّهَش والانبهار إنما تغشى ذلك الذي لم يكن على ثقةٍ من كفايتِه لمقام الخطابة، فيَخشى أن يقع في معنى سخيفٍ أو لفظٍ مرذول. قال الكميت بن زيد:"إنما يجترئُ على الخطابة الغَمْرُ الجاهل، أو المطبوع الحاذق، الواثقُ بغَزَارته واقتداره".
والخطيب المتصنِّع متى أُرتِجَ عليه لم يَسَعْهُ إلا أن يَدَع الكلام، وينزلَ عن مقام الخطابة صاغرًا، أما الخطيبُ المطبوع فقد ينبو فِكْرُه عن الغرض الذي وقف من أجله، ولكنه لا يعجِز أن يُسمِع الناس كلماتٍ بليغةً يصونُ بها موقفَه من أن يُسَامَ بغضاضةٍ أو ازدراء.
صعد خالدُ بن عبد الله القَسْري المنبرَ فأرتِجَ عليه، فمكث مَليًّا لا يتكلَّم، ثم تكلَّم فقال:"أما بعدُ، فإنَّ هذا الكلام يجيءُ أحيانًا ويعزُب أحيانًا، فيسيحُ عند مجيئه سَيْبُه، ويَعِزُّ عند عُزُوبِه طلبُه". إلى أن قال: "وقد يُرْتَجُ على البليغ لسانُه، ويَختِلجُ من الجريءِ جَنَانُه، وسأعود فأقول