في الناس مَنْ يقفُ ليخطب فَتَنْهَالُ عليه المعاني، وتتسابقُ إليه الألفاظ، فيسترسلُ في القول دون أن يُدرِكَه حَصَرٌ أو يَتعثَّرَ في لَجْلَجَةٍ، وهذا ما نسمِّيه ارتجالاً.
وفي الناس مَنْ تجيئُه المعاني على مَهَلٍ، وتتوارد عليه الألفاظ في تباطؤ، فلا يحسن أن يخطب إلا بعد أن يُعِدَّ لمقام الخطابة مَقَالاً.
قال أبو هلال العسكري:"في الناس مَن إذا خلا بنفسه وأَعْمَل فِكْرَه أتى بالبيان العجيب، واستخرجَ المعنى الرَّائق، وجاء باللفظ الفائق، فإذا حاوَر أو ناظَر قَصَّر وتأخَّر، فخَلِيقٌ بهذا أن لا يتعرَّضَ لارتجال الخُطَب".
وكانوا فيما سلف يتَّهمون الخطيب المبدِع بأنه يهيئُ الخطب ويحبِّرها تحبيرًا، وإنما ينفي عنه هذه التُّهْمَةَ أن يحدُث داعٍ للخطابة فَجْأَةً فيقفُ ويخطبُ بما يُشْبِهُ خُطَبه السابقةَ ارتجالاً. قيل لبعض الخلفاء: إنَّ شبيب بن شيبة يستعملُ الكلام ويستعيرُه، فلو أمرتَ أن يصعدَ المنبر لرجوتُ أن يَفتضح، فأمرَ رسولاً فأخذ بيدِه إلى المسجد فلم يُفَارِقْهُ حتى صَعَد المنبرَ فارتجلَ كلامًا يُشبِه طِرَازَ خطبه، فعرفوا أنه من أولئك الذين يستطيعون أن يقتضبوا الخطب ساعةَ يقومون على أعواد المنابر اقتضابًا.