وتظل هذه الإشارات في تحليل الموهبة الشعرية والاستعدادت الفطرية والمكتسبة قاصرة عن الغوص إلى مكامن الإبداع الشعري، ولكنها تخلص إلى حقيقة هامة وهي أن الشعر يستلزم وجود الموهبة أساسًا، ثم تنميتها بالقراءة والدربة.
وإذا كان النقاد والباحثون قد اختلفوا في تحديد المنابع الأساسية للشعر فقد شجر بينهم الخلاف أيضًا حول مهمة الشعر وغايته وفقًا لاختلاف المدارس والاتجاهات، ولعل أول من أدلى بدلوه في هذا الميدان على نحو واضح من الشعراء العرب المحدثين أحد رموز مدرسة الديوان وهو المازني في كتاب له صدرت الطبعة الأولى منه عام ١٩١٥م حيث يقول عن الشعر:"
إنه مرآة الحقائق العصرية لأن؛ الشاعر لا قبل له بالخلاص من عصره والفكاك من زمنه، ولا قدرة له على النظر إلى أبعد مما وراء ذلك بكثير فحكمته حكمة عصره، وروحه روح عصره"١.
ولا بد من أجل فهم أعمق لتطور النظر إلى فن الشعر من حيث طبيعته وغاياته من تتبع المدارس المختلفة وتعاقبها منذ أرسطو حتى الآن، وهذا أمر يصعب استيعابه ولكننا سنعمد إلى إيجاز القول فيه.
أولًا: نظرية المحاكاة:
وأول من لفت الأنظار إليها فلاسفة اليونان القدامى خصوصًا أفلاطون الذي يرى أن العالم الحقيقي موجود في ما أسماه عالم المثل، أما العالم المحسوس فهو انعكاس له، والشعر محاكاة للعالم المحسوس فهو يبعد عن الحقيقة مرتين، ولكن أرسطو أشار إلى أن المحاكاة تصوير الشيء كما ينبغي أن يكون، وظلت نظرية المحاكاة هذه أساسية حتى القرن التاسع عشر مع اختلاف في فهم المحاكاة
١ راجع د/ مدحت الجيار/ الشعر غاياته ووسائطه، نص كتاب المازني مع دراسة وتحليل، دار الصحوة للنشر، القاهرة، سنة ١٩٨٦م ص٣٥.