الموهوبين الذين حَبَاهم الله -سبحانه وتعالى- بسطة في العلم، وسعة في الاطلاع، وقيل هذا وذاك موهبة فطرية وملكة إبداعية، ولكن هناك ما يمكن أن يتلمسه المرء من أجل الوصول إلى هذا المقصد. وأول الطريق تكمن فيما يلي:
أولًا: تربية ملكة الفهم والتذوق والاستيعاب والتمثل أثناء الاطلاع والقراءة، بحيث لا يقتصر القارئ على مجرد الحفظ والترداد.
ثانيًا: يبدأ الكاتب مقلدًا لغيره-عادة- ثم ينفرد بأسلوبه الخاص، فعليه أن يختصر فترة التقليد وأن يبحث عن شخصيته الخاصة، ولا يتم ذلك إلا بالانفعال الصادق بالتجربة والتعبير عنها.
ثالثًا: في مرحلة تالية لابد للكاتب من الابتعاد عن اللوازم التعبيرية الشائعة على الألسن، أو الخاصة بكاتب أو أديب معين، بل لابد له من أن يطيل التأهُّل والمعاناة فيختار ما يلمح فيه الجدة والابتكار، ويأتي ذلك بطول التأمل وبالاختيار المتمرس، وبإطلاق العنان للخيال ومداومة النظر في كتب اللغويين والأدباء والقدماء والمحدثين.
رابعًا: على الكاتب ألا يتسرع في نشر محاولااته الأولى، بل لا يتعَّجل إذاعة ما يكتب في الناس، وإنما يلتمس المشورة لدى الأدباء والمختصين، وألا يأنف من النقد مهما كان قاسيًا ولا يزورُّ عنه، وتجارب كِبَارِ الْكتاب والأداء تفيد أنهما تعرضوا لانتقادات قاسية في بداياتهم الأولى، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مزق مئات الصفحات مما كتب قبل أن ينشر حرفًا على الناس١.
١ وخير شاهد على ذلك ما رواه الشاعر إبراهيم طوقان عن تجربته الخاصة إذ يقول: "كنت قد توقفت في قصيدة ملائكة الرحمة، وسمعت كثيرًا من كلمات الإعجاب بها فخيل إلى أن كل قصائدي في المستقبل ستكون مثلها مدعاة للإعجاب! وَأَخَذْت في نظم قصيدة غزلية وأنا مفعم بزهوي وخيلائي، وَأَخْذت أغوص على المعاني وأتفنن في الألفاظ!! وكان يشرف على نشأتي الأدبية اثنان لأسمع إعجابهما وأنتشي به، وَتَلَوْتُ الْقَصِيدَةَ عَلَيْهما، وظفرت بالْإِعْجَابِ، وَتَرَكَانِي، وَعَادَا إِلَيَّ بعد قليل قال أحمد: أخي أنا لا أفهم القصيدة جيدًا حين تتلى علي، أريد أن اقرأها بنفسي، فناولته القصيدة ودنا رأس سعيد من رأس أحمد وشرعا في قراءة صامتة ثم كانت نظرات تبادلاها، أحسست منها بمؤامرة ... وإذا بالقصيدة تُمَزَّق، وإذا بها تنسف في الهواء، قال أحمد هذه قصيدة سخيفة المعنى، ركيكة المبنى، قال سعيد: ليس من الضروري، أن تنظم كل يوم قصيدة. ديوان طوقان، مكتبة المحتسب، عمان، ١٩٨٤ص٨.