للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما الأدلة العقلية الاستنباطية فجماعها في أربعة أمور:

الأول: هو هذا الذي قدمناه في الفصل السابق، وتجشمنا مشقة الخوض فيه وبيانه والكشف عن أجزائه وتفاصيله. ولم نكن لنركب هذا المركب لمثل هذا البحث لو لم نرم إلى أن نتخذ منه متكأ نعتمد عليه في بحث كتابة الشعر الجاهلي بخاصة. وذلك أن عرب الجاهلية هؤلاء الذين كانوا يقيدون بالكتابة دينهم ورسائلهم وعهودهم وصكوك حسابهم وسائر ما قدمناه في بحثنا عن موضوعات كتابتهم لا يصح في الفهم أن يقيدوا كل ذلك من أمورهم: دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، حقيرها وعظيمها ثم يهملوا تقييد شعرهم. والشعر عندهم كما هو معروف متداول، في الذروة العليا من القيمة والخطر؛ إذ هو ديوان أمجادهم وأحسابهم، وسجل مفاخرهم ومآثرهم، قال الجاحظ١: " ... فكل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها".

وقال ابن قتيبة٢ عن الشعر إن الله جعله لعلوم العرب مستودعًا، ولآدابها حافظًا، ولأنسابها مقيدًا، ولأخبارها ديوانًا لا يرث على الدهر ولا يبيد على مر الزمان.

فإذا كانت القبائل تقيد عهودها ومواثيقها -كما مر بنا- أفليس من الطبيعي إذن أن تقيد شعر شعرائها الذين يدافعون به عن حياضها، ويذودون به عن أمجادها، ويسجلون به وقائعها وأيامها، ويعددون فيه انتصاراتها ومآثرها؟

ونحن نعلم أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس٣.


١ الحيوان ١: ٧١-٧٢.
٢ تأويل مشكل القرآن: ١٤.
٣ ابن رشيق، العمدة ١: ٤٩.

<<  <   >  >>