الدالة. فلسنا نقصد إلى هذا الحديث لذاته، وإنما نتوسل به إلى موضوعنا الأصيل، ونتخذه معبرًا نجتازه إلى بحث تدوين الشعر الجاهلي.
وأول ما يعرض لنا، قبل المضي في البحث، سؤالان تعتمد على إجابتهما خطواتنا التالية. الأول: هل كانت الصحف من الكثرة والشيوع بمنزلة يتيسر معها أن يوجد التدوين؟ والثاني: ما هو المظهر اللغوي، أو الصورة اللغوية للتدوين في صدر الإسلام؟
وتبدو لنا قيمة السؤال الأول في أن التدوين والتأليف لا يقوم لهما وجود إلا إذا كانت الصحف التي تتخذ للكتابة من الوفرة والانتشار بمنزلة يتيسر معها، لمن أراد، أن يشتري منها ما يفي بحاجته، فيستطيع أن يضم بعضها إلى بعض، ويؤلف أجزاءها، ويجعل من مجموعة هذه الصحف ديوانًا مؤلفًا. أما إذا كانت الصحف مفقودة أو نادرة أو عزيزة مرتفعة الثمن لا يُستطاع الحصول عليها إلا بشق النفس أو بعد أن يُبذل في شرائها من المال ما لا يطيقه إلا الموسرون الأثرياء، فإن استخدام الصحف للكتابة في هذه الحالة لا يكون إلا في نطاق ضيق محدود لا يتيسر معه وجود التدوين والتأليف.
ويبدو لنا، مما عثرنا عليه من روايات ونصوص، أن الصحف كانت منذ الصدر الأول كثيرة شائعة، وأنه كانت لها أسواق أو متاجر خاصة تباع فيها، ويقوم على بيعها رجال يختصون بهذا الضرب من التجارة ويُعرفون به ويلقبون بالوراقين. ويبدو لنا كذلك أن هذه الصحف كانت أثمانها زهيدة يستطيع الناس أن ينالوا منها ما يريدون من غير أن يتكلفوا من أمر مالهم رهقًا.
ومما يدل على هذا الضرب من التجارة، وعلى توافر الصحف في الأسواق، وسهولة الحصول عليها، ما رُوي من أن علي بن أبي طالب خطب الناس في الكوفة، فقال: من يشتري علمًا بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعور صحفًا بدرهم،