للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هؤلاء النساخين١، وكان يأتيه الناس يكتبون حديثه، وممن كان يأتيه ابن شهاب الزهري، فكان الزهري يأخذ ورقة من ورق الأعرج فيكتب فيها الحديث ثم يقرأه ثم يمحوه مكانه؛ وربما قام بها معه، فيقرأها ثم يمحوها.

ومهما يكن عمل هؤلاء النساخ، أو الموضوع الذي ينسخونه، فإن الذي يعنينا من أمرهم أن قيام طبقة خاصة من النساخ دليل نضمه إلى الأدلة السابقة، فتشير كلها إلى توافر الصحف في الأسواق، ووجود محال خاصة لتجارتها، وقيام أفراد يختصون ببيعها وبالنسخ عليها، واستطاعة الناس آنذاك شراءها٢.

-٢-

فإذا كان ذلك كذلك، فما هو المظهر اللغوي، أو الصورة اللغوية، للتدوين في هذا العصر المبكر؟ ونقصد بذلك الألفاظ التي كانوا يطلقونها ليدلوا بها على مجموعة الصحف المدونة. فإذا كانوا قد عرفوا التدوين والتأليف فلا شك في أنهم استخدموا ألفاظًا خاصة لمجموعة صحفهم تختلف عن ألفاظهم


١ تقييد العلم: ٥٩.
٢ أما ما رُوي من قول عمرو بن ميمون: ما زلت ألطف أنا وعمر بن عبد العزيز في أمر الأمة حتى قلت له: يا أمير المؤمنين، ما شأن هذه الطوامير التي يكتب فيها بالقلم الجليل يمد فيها وهي من بيت مال المسلمين؛ فكتب في الآفاق أن لا يكتبن في طومار بقلم جليل ولا يمدن فيه.
قال: فكانت كتبه إنما هي شبر أو نحوه "ابن سعد ٥: ٢٩٥-٢٩٦"؛ وما رُوي أيضًا من أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: أما بعد، فكتبت تذكر أن القراطيس التي قبلك قد نفدت وقد قطعنا لك دون ما كان يقطع لمن كان قبلك، فأدق قلمك وقارب بين أسطرك واجمع حوائجك؛ فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به. "المصدر السابق"، فهذان النصان لا ينقضان ما قدمنا، ولا يعنيان أن الصحف آنذاك كانت قليلة نادرة غالية الثمن، كما ذهب الأستاذ جب في مقالته عن "بدء التأليف النثري" ص٦. فنص هاتين الروايتين واضح في أن ذلك أنما هو "لطف في أمر الأمة" وكره لأن "يخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به". فمرده إذن إلى القصد والاعتدال والتوفير وعدم الإسراف والتبذير.

<<  <   >  >>