ثم إن في هذا الشعر الجاهلي وفرة من القيم الفنية الأصيلة لم يحظ بها كثير من الشعر العربي بعده: ففيه من خصب الشعور، ودقة الحس، وصدق الفن، وصفاء التعبير، وأصالة الطبع، وقوة الحياة، ما يجعله أصفى تعبير عن نفس العربي، وأصدق مصدر لدراسة حياته وحياة قومه من حوله.
من أجل ذلك كله عزمت، حين أنهيت دراستي الجامعية الأولى، على مواصلة بحث الشعر الجاهلي ودراسته. فقضيت أربع سنوات أبحث فيها بعض هذا الشعر، وبعض ما كتبه القدماء والمحدثون عنه وعن العصر الجاهلي عامة، وخرجت من هذه الدراسة برسالتي الأولى لدرجة "الماجستير" عن "القيان وأثرهن في الشعر العربي في العصر الجاهلي". ومع ما بذلت من جهد، وأنفقت من وقت، وحققه البحث من نتائج، فقد كنت أحس أنني أسير في طريق لا أكاد أستبين فيها مواطئ قدمي، وأن عليَّ أن أعود أدراجي، ثم أبدأ بداية جديدة لا أخطو فيها خطوة إلا بعد تثبت وتيقن.
وعدت، وبدأت الطريق من أوله، وقضيت أربع سنوات أخرى، خرجت منها بهذا البحث لدرجة "الدكتوراه"، وأنا مقتنع بأن هذا الموضوع الذي أبحثه هو الخطوة الأولى الصحيحة التي تسبق كل خطوة غيرها -في سبيل دراسة الشعر؛ وأن بحث هذا الشعر بحثًا مجديًا لا يتم إلا عن طريق دراسة خارجية أولًا، تعنَى بمصادره جملة في مجموعها، وتبحث رواية هذه المصادر وتسلسلها، ورواتها ومدى الثقة بهم، ثم تتتبع المصادر الأولى التي استقى منها أولئك الرواة، خطوة خطوة، حتى تصل بين هؤلاء الرواة والشاعر الجاهلي نفسه. وكل دراسة قبل هذه إنما هي تجاوز عن الأصل الأول الذي لا بد من البدء به، وأحسب أن كثيرًا من الخطإ الذي وقع فيه من ضعفوا وسيلة حفظ هذا التراث الخالد، ووهنوا طريقة نقله وروايته، إنما أتوا من هذا التجاوز والإغفال لنقطة البدء الصحيحة.