للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني. ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة، وسلسلة محكمة، يأخذها الخلف عن السلف ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها معنيين بها. ولم يشغلهم عن إنشاد الشعر وروايته، وذكر أخبار العرب وأيامهم ومفاخرهم ومثالبهم، في مجالسهم ومحافلهم، شاغل من حرب أو فتنة، حتى لقد رأينا المسلمين الأولين، والمشركين من كفار قريش، لا ينقطعون عن إنشاد الشعر الجاهلي واستنشاده وروايته والتمثل به وتعلمه وحفظه. فأين هذا كله من قول ابن سلام وغيره إن العرب تشاغلت عن الشعر لما جاء الإسلام "وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر".

ولا نحب أن نتأول كلام ابن سلام، فألفاظه صريحة واضحة، ولكننا نحسب أنه يقصد إلى أن الرواية العلمية المنظمة، والضبط والتدقيق والتحري، وتدوين ذلك كله لم يستطع الغرب أن يتلمسوا إليه السبيل إلا بعد أن استقروا في الأمصار. فإن كان ذلك هو قصده، فلا ريب أننا لا نستطيع له دفعًا. وأما إذا كان يقصد، كما يفهم من صريح ألفاظه، مجرد رواية الشعر وإنشاده وحمله ونقله شفهيًّا، فما قدمنا من أمثلة لا يتيح لنا أن نقبل دعواه. وسنزيد الأمر بسطًا حين نتحدث في الفصل المقبل عن طبقات الرواة.

<<  <   >  >>