سنة ٥٥٠ ق. م أي بعد نظمهما بقرون كثيرة، وقد بقيتا خلال هذه القرون تتناقلان بالرواية الشفهية، فاعتورتهما تغييرات وتبديلات كثيرة عمد إلى بعضها الرواة عمدًا وجاء بعضها مصادفة. ٢- وقد تعاورتهما -حتى بعد أن دونتا- تغييرات أخرى جديدة عمد إليه المصححون والمراجعون عمدًا، أو قام بها النقاد العلماء الذين توخوا صقلهما وجعلهما متسقتين مع صور تعبيرية أو أصول فنية معينة. ٣- أن للإلياذة وحدة فنية، وتفوقها في ذلك أيضًا الأوديسة، ولكن هذه الوحدة لا ترجع في جلها إلى القصيدتين الأصليتين وإنما إلى ما أضافته إليهما المعالجة المصنوعة في عهود تالية. ٤- أن القصائد الأصلية التي ضمت وجمعت حتى صارت ما نعرفه من ملحمتي الإلياذة والأوديسة لم ينظمها كلها شاعر واحد بعينه.
وجميع أدلة نظرية ولف في جوهرها خارجية، فهي مبنية على اعتبارات تاريخية معينة تتصل بالحضارة الإغريقية المبكرة وبتطور الفن الشعري. وقد وصف لنا -في مقدمة طبعته للإلياذة- ما أحس به حينما كان ينفلت من عقال نظريته إلى قراءة القصيدتين قراءة جديدة. فحينما كان يغمر نفسه في تيار القصة البطولية الذي ينساب انسياب النهر النمير كانت جميع أدلته تتطاير من رأسه، وكان الاتساق والانسجام الشاملين في القصيدتين يؤكدا نفسيهما بقوة لا تقاوم، وكان ولف يحس بالألم والغضب لأن شكوكه حرمته نعمة الإيمان بهومر واحد. ومع ذلك فقد ذكرنا قبل صفحات أن ولف لم ينكر وجود شخص هومر نسب إليه أنه بدأ نسج القصيدة ومضى فيه إلى غاية محدودة، بل إنه نسب إليه القسم الأكبر من النسيج. ومن هنا جاءت مرونة نظرية ولف التي أشرنا إليها من قبل، وجاء اختلاف فهم تلامذته لهذه النظرية وذهابهم مذاهب متفرقة مع أنهم يصدرون عن مصدر واحد. والحق أنه من المجحف بحق ولف، حينما يقوم عمله، أن يظهر بمظهر الناقد الهادم حسب: فإن فضله على الدراسات الهومرية كبير، ولا يسع هؤلاء الذين يختلفون معه في نتائجه