وإذا كانت نتائج البحث الأدبي والتاريخي عامة تعتمد -في أغلبها- على الروايات والأخبار والنصوص، فإن من الطبيعي أن تجيء نتائج ظنية ترجيحية؛ لا سبيل إلى الوصول إليها إلا بجمع هذه الروايات والأخبار والنصوص، واستقصائها، ودراستها دراسة قوامها: مقابلة بعضها ببعض، ومناقشتها، ونقد إسنادها ومتنها، بحيث ينتهي كل ذلك إلى تغليب نص على آخر، أو ترجيح رواية على غيرها، أو تفضيل خبر على سائر الأخبار. ولا سبيل في مثل هذه الأبحاث إلى اليقين القاطع، والقول الفصل، اللذين لا يتوافران إلا في العلم التجريبي وحده، حين يستطيع المرء، في معمله أو مختبره، أن يعيد التجربة عمليًّا ليقيم البرهان على صحة ما يذهب إليه. ومن أجل ذلك تجنبت أن ألقي الأحكام إلقاءً عامًّا قاطعًا، وإنما سقتها في صيغ ترجيحية غالبة.
ومع هذا كله، ففي البحث حماسة أحيانًا، وإلحاح على مسائل بعينها أحيانًا أخرى؛ ولكن ذلك كله إنما هو نتيجة طبيعية لاحقة، وليس مقدمة مفتعلة سابقة. فإن من الطبيعي، في المنهج العلمي نفسه، أن يندفع الباحث -في غير مغالاة ولا إسراف- في حماسته لبحثه وآرائه، بعد أن يكون قد وصل -عن طريق هذا المنهج العلمي- إلى أدلة يقتنع بصوابها، وحجج يطمئن إلى سلامتها، فيؤكدها كلما سنحت له فرصة للتأكيد، ويلح عليها كما أمكنه الإلحاح. وأحسب أن الفرق واضح بين الحماسة البصيرة للرأي حين يصل إليه المرء بعد بحث وتحر وتحقيق، وبين التعصب الأهوج للفكرة التي يدخل المرء بها في بحثه ابتداءً. فالحماسة الأولى من أمارات الحياة السليمة في البحث والباحث، والتعصب الثاني من علامات عجز الفكر وضيق الأفق. ومن هنا أرجو ألا أبعد عن الحق حين أقول: إن كل رأي في هذا الكتاب قد قامت من بين يديه وفرة من النصوص قادت إليه وانتهت به؛ وأن النص هو الذي وجه البحث إلى ما فيه من آراء، وليست الآراء هي التي وجهت البحث إلى النصوص: يجتلبها، ويقتنصها، ويستكثر منها، ويقسرها قسرًا لما يريد.