استشهد ببيت لم يذكر ناظمه، وأما الأبيات المنسوبة في كتابه إلى قائليها فالنسبة حادثة بعده، اعتنى بنسبتها أبو عمر الجرمي ... وإنما امتنع سيبويه من تسمية الشعراء لأنه كره أن يذكر الشاعر، وبعض الشعر يُروى لشاعرين وبعضه منحول لا يعرف قائله لأنه قدم العهد به. وفي كتابه شيء مما يُروى لشاعرين، فاعتمد على شيوخه ونسب الإنشاد إليهم فيقول: أنشدنا، يعني الخليل؛ ويقول: أنشدنا يونس، وكذلك يفعل فيما يحكيه عن أبي الخطاب وغيره ممن أخذ عنه. وربما قال: أنشدني أعرابي فصيح. وزعم بعض الذين ينظرون في الشعر أن في كتابه أبياتًا لا تعرف؛ فيقال له: لسنا ننكر أن تكون أنت لا تعرفها ولا أهل زمانك، وقد خرج كتاب سيبويه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه أكيدة، ونظر فيه وفتش فما طعن أحد من المتقدمين عليه، ولا ادعي أنه أتى بشعر منكر، وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها لا رووا حرفًا منها".
وكلام البغدادي -على ما فيه من فائدة وغناء- غير ملزم للجرمي، ولا يفهم بالضرورة من كلامه الذي أوردناه. فكلام الجرمي لا يفيد أن سيبويه لم ينسب شيئًا من أبياته التي استشهد بها، وكل ما ذكره الجرمي أنه وجد في كتاب سيبويه ألفًا وخمسين بيتًا، عرف أسماء قائلي ألف منها فأثبتها، ولم يعرف أسماء قائلي الخمسين الباقية. وهذا القول يحتمل أن يكون سيبويه قد عزا بعض هذه الأبيات الألف إلى قائليها ثم جاء الجرمي ونسب ما لم ينسبه سيبويه. ويحتمل أيضًا أن سيبويه لم يعز شيئًا منها وإنما الفضل في نسبتها إلى الجرمي. ولا سبيل إلى ترجيح أحد هذين الاحتمالين من كلام الجرمي وحده. ولكن البغدادي قطع قطعًا يقينيًّا بأن سيبويه لم يعز شيئًا من أبياته وإنما كان الجرمي هو الذي عزاها. ثم مضى البغدادي فعلل لنا امتناع سيبويه من تسمية الشعراء.
فإذا عدنا نحن إلى كتاب سيبويه وجدنا فيه نحو تسعمائة وخمسة وأربعين بيتًا، تكرر منها بعضها مرة أو مرتين في نحو مائة وخمسة مواضع، فيكون بذلك