للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمر الشعر الجاهلي في كتب السيرة والتاريخ لا يكاد يختلف -في جوهره- عما قدمنا من حديث عن كتب النحو واللغة. ولو أننا قصرنا حديثنا على كتاب واحد هو ما حفظه لنا ابن هشام من السيرة التي صنعها محمد بن إسحاق لوجدنا فيه شعرًا كثيرًا جديرًا بالبحث والدرس، وأول ما يبدو لنا من شأنه أن محمد بن إسحاق لم يكن أول من أدخل الشعر فيما يروي من أخبار، بل لقد سبقه إلى ذلك كل من كتب في السيرة قبله، مثل: عروة بن الزبير، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم، وابن شهاب الزهري، وغيرهم؛ فإن الأخبار التي تروى عنهم تدل على أنهم كانوا من رواة الشعر وحفاظه ومتذوقيه، وما بقي لنا من آثار السيرة التي كتبوها -متفرقة في مواطن عدة من كتب التاريخ والسيرة- يدل على أنهم كانوا يوردون في كتبهم الأشعار التي قالها الرجال الذين يدر ذكرهم في حوادث السيرة١. وقد مر بنا في فصل مضى أن السيرة والتاريخ والقصص عامة كانت مجالًا واسعًا للاستشهاد بالشعر، بل لقد كان الشعر ضرورة لازمة لها يزينها ويكسبها ثقة وقوة في نفوس المستمعين والقارئين، كأنما كان الشعر دليلًا على صدق ما يروى من خبر، حتى لقد رووا أن معاوية بن أبي سفيان طلب من عبيد بن شرية -حينما كان يقص عليه أخباره المتضمنة في كتاب "أخبار عبيد بن شرية"- أن يورد في أخباره وقصصه كل ما يتصل من شعر وقال له٢: "وسألتك ألا تمر بشعر تحفظه فيما قاله أحد إلا ذكرته". ومع أن عبيدًا كان لا يقصر في الاستشهاد بالشعر، فقد عاد معاوية يلحف عليه بقول٣: "سألتك إلا شددت


١ انظر هوروفتس المغازي الأولى ومؤلفوها: ٢٤، ٤٤، ٦٨.
٢ أخبار عبيد بن شرية: ٣١٤.
٣ المصدر السابق: ٣١٨.

<<  <   >  >>