موغلين في الصحراء، بعيدين عن كل أسباب الحضارة والمدنية، وإنما كانت القبيلة الواحدة في الجاهلية -كما كانت في صدر الإسلام، بل كما هي لعهدنا هذا- ثلاثة أقسام: قسم ما زال ضاربًا في جوف الصحراء، وقسم تحضر واستقر وسكن المدن والقرى، وقسم بين هذين القسمين: يبتعد عن جوف الصحراء ولكنه لا ينزل قلب المدن والقرى، وإنما يستوطن باديتها وظاهرها. وعلى ذلك كانت: قريش والأوس والخزرج وهذيل وعبد القيس وبكر وتغلب وأكثر قبائل العرب؛ يتحضر بعضها ويسكن المدر في: مكة ويثرب والطائف وقرى اليمامة والجزيرة، ويبدوا بعضها فينزل في ظواهر هذه المدن والقرى وضواحيها، ثم يبقى بعضها على ما كان عليه أصلًا في جوف الصحراء.
وكما انقسمت القبيلة العربية الواحدة ثلاثة أقسام في موطنها وحياتها الاجتماعية، كانت كذلك في دينها: فقد كانت أكثر القبائل في الصحراء وثنية مشركة، وكان كذلك بعض هذه القبائل في البادية والحواضر، ولكن من هذه القبائل نفسها من كان يعبد الله، إما لأنه دخل في النصرانية أو اليهودية، وإما لأنه ما زال مقيمًا على بعض دين إبراهيم. فاليهود والنصارى في بلاد العرب كانوا في أكثرهم قبائل عربية تهودت أو تنصرت.
وكانت هذه المدنية التي عرفها سكان الحواضر وقطان البوادي المطيفة بها -على تفاوت نصيبهم منها في الجاهلية الأخيرة القريبة من الإسلام- نتاج عاملين كبيرين: عامل تليد موروث يحسون به ولا يكادون يستبينونه في وضوح، ويدركون أطرافًا منه، ولكنهم لا يقوون على بعث الحياة فيه، وكانت آثار هذه المدنية الموروثة وشواهدها ماثلة أمام أعينهم، يرونها في حلهم وترحالهم، حتى إذا نزل القرآن ذكَّرهم بها واستمد منها العظة والعبرة. وعامل طريف مقبوس يستمدونه من اتصالهم الوثيق بالحضارات القائمة من حولهم في بلاد فارس والروم ومصر.
ومن أجل ذلك كله كان لابد للباحث من أن يتنبه لهذه الفروق الكبيرة في