للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى ما لا يملكون. إنهم، باختصار، لا يحترمون النثر، وذلك هو أساس الإشكال الذي وقعوا فيه. إنهم مهما أبدعوا من صور وأفكار في قالب نثري، يحسون أنهم ما زالوا أقل إبداعًا من شاعر يخلق هذا الجمال نفسه، ولكن بكلام موزون. ولذلك تراهم يعبرون عن ازدرائهم بموهبتهم بإطلاق كلمة "شعر" على ما يكتبون وكانوا في السنين الخالية يقولون "شعر منثور" مشيرين بكلمة "منثور" على الأقل إلى أنه "نثر" فأصبحوا اليوم من الاستهانة بالمقاييس الموضوعية، بحيث يجرءون على أن يسموه شعرًا على الإطلاق. لا بل إنهم أصبحوا يحتقرون الشعر ويسمونه "تقليديا" لكي يجعلوا الإبداع والتجديد قاصرًا على نثرهم المبتكر، فهو الشعر الأوحد برغم المقاييس كلها.

ولعله واضح أن دواء هذا الإشكال أن يمتلك هؤلاء الكتاب الثقة بالنثر. فمن قال لهم إن النثر وضيع أو إنه لا يمنح قائله صفة الإبداع؟ ولماذا يحسبون أن نثرهم لا يكتسب الإعجاب إلا إذا هو مسخ ذاته وسمي نفسه "شعرًا"؟ ولنفرض أننا وافقناهم وسمينا نثرهم شعرًا، فهل ترى الاسم يغير من حقيقته شيئًا؟ أو يزيده تغير الاسم شرفًا أو جمالًا؟

والذي يعرفه الملايين أن كثيرين من كتاب العربية قد كتبوا النثر "الشعري" ولنا في العصر الحديث منهم طائفة مرموقة مثل أديب العربية الفذ مصطفى صادق الرافعي والكاتب المرهف جبران خليل جبران وغيرهما كثير، وليس ينقص من قيمة ما كتبوا أنه نثر لا شعر. ولقد كانوا يسمون نثرهم نثرًا دون أن يسيئوا إليه في شيء. وبعد فهل أجمل من القرآن في اللغة العربية؟ والقرآن نثر لا شعر، وفيه، مع ذلك، كل ما في الشعر من إيحائية وخيال وثاب وصور معبرة وألفاظ مختارة اختيارًا معجزًا، فهل ينقص من قيمة القرآن الجمالية أنه نثر لا شعر؟ وأي شعر في الدنيا أروع وأحب من هذا النثر القرآني البديع؟

وخلاصة الرأي أن للنثر قيمته الذاتية التي تتميز عن قيمة الشعر، ولا

<<  <   >  >>