بالعواطف والصور عن هذا السكون وعندما كان الهيكل هرميًّا والارتكاز متحركًا لم يحتج الشاعر إلى أي تعويض. ونحن الآن بإزاء النوع الثالث الذي سنسميه بالإطار الذهني. ونحن نعزله عن النوعين الآخرين لأنه يقدم عنصر الحركة على أسلوب فكري. فبدلًا من أن يستغرق التحرك زمانًا، كما في قصيدة "التمثال" نجد الحركة لا تستغرق أي زمن لأنها حركة في الذهن يقصد بها بناء هيكل فكري لا وصف حدث يستغرق زمانًا. وأكثر ما ينجح هذا الهيكل في القصائد التي تحتوي على فكرة يناقشها الشاعر بالأمثلة المتلاحقة. وهذا نوع من الشعر يكثر في شعر شعراء المهجر جبران ونعيمة وأبي ماضي.
ونموذج هذا الهيكل قصيدة العنقاء١ لإيليا أبي ماضي. وقد رمز الشاعر بالعنقاء إلى السعادة -كما يلوح- ومن ثم بقي يسأل عنها ويبحث لعله يعثر عليها. التمسها أولًا في الطبيعة، ثم في القصور، ثم في الزهد، ثم في الأحلام، ولكنه لم يصادفها. وبعد فوات الأوان أدرك أنها كانت معه طوال الوقت وهو لا يدري. وتتجلى الحركة الذهنية في الانتقال من الطبيعة إلى القصور، إلى الزهد، وهكذا. ذلك أن هذه ليست حركة في الزمن، ولا هي حركة في المكان. وإنما قصد الشاعر أن يوازن بين مختلف منابع السعادة موازنة ذهنية فيمر بكل منها ويستعرض الإمكانيات لينتهي إلى أن السعادة إنما تنبع من نفس الإنسان لا من خارجها. وهكذا نرى أن التتابع الزمني ليس مقصودًا هنا، والدليل أننا نستطيع أن نقدم البحث في الأحلام، على البحث في القصور أو الصوامع دون أن تضطرب القصيدة أو يتغير مدلولها العام. وهذا ما لا يمكن أن نصنعه في قصيدة "التمثال" حيث كان الإلحاح على التسلسل الزماني جزءًا ضروريًّا من كيان القصيدة ومدلولها. ولذلك نميز بين الهيكلين هذا التميز التام: فالهيكل