كادت تصبح تاريخًا فقهيًّا للغة في بعض العصور الأخرى، بدلًا من أن تبقى علمًا متطورًا يخدم اللغة ويعكس أحوالها ويسجل مراحل نموها.
والواقع أن بلاغة أية لغة ينبغي أن تبقى علمًا مطاطًا قابلًا للنمو معها وإلا بعدت الشقة بينهما وانحط شأن البلاغة.
والذي نحاوله في هذا الفصل أن نتناول موضوع التكرار بنوع من الدراسة البلاغية نستند فيها إلى الشعر المعاصر رغبة في الوصول إلى القوانين الأولية التي يمكن تبريرها من وجهة نظر النقد الأدبي وعلم البلاغة معًا، وذلك دون أن نغفل قواعد اللغة القديمة وما تجنح إليه من تحفظ يرمي إلى الاحتفاظ بجوهر اللغة الصافي.
إن أبسط قاعدة نستطيع أن نصوغها بالاستقراء ونستفيد منها هي أن التكرار، في حقيقته، إلحاح على جهة هامة في العبارة يعني بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها. وهذا هو القانون الأول البسيط الذي نلمسه كامنا في كل تكرار يخطر على البال. فالتكرار يسلط الضوء على نقطة حساسة في العبارة ويكشف عن اهتمام المتكلم بها، وهو، بهذا المعنى، ذو دلالة نفسية قيمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلل نفسية كاتبه. وعلى هذا فعندما يقول بشارة الخوري في افتتاحية قصيدة جميلة:
الهوى والشباب والأمل المنشو ... د توحي فتبعث الشعر حيًّا
والهوى والشباب والأمل المنشو ... د ضاعت جميعها من يديا
عندما يقول هذا، فإنه يعبر بالتكرار عن حسرته على ضياع "الهوى والشباب والأمل المنشود" ولذلك يكررها. فالتكرار يضع في أيدينا مفتاحًا للفكرة المتسلطة على الشاعر، وهو بذلك أحد الأضواء اللاشعورية