للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى أن تجرد الشعر من العواطف الإنسانية. ذلك أن أشد سخطها واستنكارها ينهال على ما تسميه -دون أن توضح مقصدها- "المشاعر الذاتية" و"الهرب من الواقع" و"الانعزالية" ولو فحصنا هذه التعابير لوجدناها تنتهي كلها إلى أن تنكر أن يكون شعر الفرد العادي من الناس موضوعًا للشعر، فهو -لكي يستحق أن تدور حوله قصيدة- ينبغي أن يكون عملاقًا بلا مشاعر: فلا يحب الأزهار، ولا يضيع وقته في مراقبة مغرب الشمس على حقول الحنطة، ثم إنه لا يتألم لهمومه الخاصة، وهو يؤمن بأن الاستماع إلى الموسيقى في هذه الظروف العصيبة إنما هو خيانة وطنية، ونحو هذا.. وليس أشد تناقضًا من هذا. فكأن الدعوة عندما أرادت أن تدعو إلى الواقعية ابتعدت عن الواقع ابتعادًا عجيبًا، وأسلمت نفسها إلى اعتقادات نظرية لا علاقة لها بالحياة.

وما هذا الواقع الذي تدعو إليه؟ أليس هو حياة الناس؟ الناس الذين لا يمر عليهم يوم دون أن يتألموا ويضحكوا لأسباب تخصهم فرديًّا، ويعيشون مفكرين في عواطفهم وآمالهم وهمومهم، وتشغلهم قضايا حياتهم الخاصة بكل ما فيها من ذكريات وحماسات ومشاكل نفسية وصداقات وأفكار. وأي لون من الشعر يستطيع أن يعبر عن هذه الحياة الواقعية الإنسانية؟ أهو الشعر الساذج المنفعل بالعبرات والبسمات أم هو الشعر الاجتماعي الذي يقف موقف الوعظ والخطابة؟

ثم إننا حين نسلط الضوء على قولهم "انعزالي" نجدنا إزاء لفظ من تلك الألفاظ التي وسع الاستعمال معناها أو لعله ضيقه حتى فقد دقته.

فالدعوة حين تستعمل هذا اللفظ في مجال النقد الأدبي تنسى أن المجتمع إنما يترك طابعه على الفرد إجبارًا لا اختيارًا بحيث تصبح السمة الاجتماعية وسمًا طاغيًا لا يملك الفرد أن ينجو منه حتى إذا لاذ بأشد أنواع "الانعزال".

فحسب الإنسان أن تكون انطباعاته البصرية والسمعية والذهنية قد تكونت كلها في مجتمع بعينه، لكي يكون واحدًا من أفراد هذا المجتمع لا يستطيع

<<  <   >  >>