لم تعد أمة ولم يعد في إمكانها أن تحفظ تراثها. أن التحفظ، بالمعنى البايولوجي، ضرب من الدفاع عن النفس يواجه به الفرد الإنساني عوامل العدوان ومخاطر المفاجأة التي تعترضه. وذلك لأن تقبلنا لأي رأي نصادفه يعني في حقيقة الأمر، أن نتهدم تهدمًا كاملًا ثم نعيد بناء أنفسنا بحيث تلتئم هذه المادة الغريبة مع المواد السابقة التي اخترناها في أذهاننا، ولذلك وحسب لا نستطيع أن نتكرم بقبول كل رأي يعرض علينا، وإنما لا بد لنا أن نتريث ونقاوم. إن طبيعتنا تفرض علينا هذا التحفظ بإزاء الأفكار، كما تفرض علينا قواعد الصحة أن نتحفظ بإزاء الحالات المفاجئة من الحرارة والبرودة والضغط، والتحفظ في الحالتين يتضمن المحاولة الدائبة لإعداد الفكر والجسم إعدادًا متدرجًا لقبول الحالة الجديدة دونما تمزق أو أذى، ذلك أن كل رأي جديد يعرض للأمة يتضمن هزة كاملة لكيانها العقلي والنفسي، فلا تستطيع أن تقبله فورًا، وإنما لا بد لها أن تعدل في مضموناتها السابقة وتعيد تنظيمها حتى تلتئم مع الحالة الجديدة.
لقد كانت هذه الحالة من الانكماش والرفض رد الفعل الأول الذي لقيته حركة الشعر الحر حين انبثقت أول مرة في العراق، فقد قابلها الأدباء والجمهور مقابلة غير مرحبة ورفضوا أن يتقبلوها وعدوها بدعة سيئة النية غرضها هدم الشعر العربي.. وإنما كانت فكرة إقامة القصيدة العربية على "التفعيلة" بدلًا من "الشطر" صادمة للجمهور لأنها سألته أن يحدث تغييرًا أساسيًّا في مفهوم الشعر عنده، وقد كان لا بد للجمهور العربي، وهو يحمل ثقافة غنية عريقة أن يتماسك في وجه هذا الطلب المفاجئ، ويرفضه ريثما يدرسه ويفسح له مكانًا.
لقد ألف هذا الجمهور أن يرص له شعراؤه القدماء ثلاث تفعيلات أو أربعًا في وحدة ثابتة اعتاد أن يسميها الشطر، فإذا هو يفتح عينيه فجأة ذات صباح فيرى أمامه قصائد أشطرها لا تتقيد بعدد معين من التفعيلات،