وما القيود، إذا تأملنا إلا طرف ممهدة مرصوفة تعطي الإنسانية الأمان والشعور بالاستقرار. إنها أشبه بسياج عالٍ يحمي المحبوسين فيه من احتمالات الضلال. والذهن الكسول يجد في القيود راحة لأنها تقيه مشقة الاختيار ومخاوف الاستقلال. وعلى هذا الأساس وضعت المجتمعات القوانين الصارمة والنظم ورصفت الخطط المفصلة لكل مسلك إنساني. إن الحرية خطرة لأنها تتضمن مغامرة فردية يجازف فيها المرء براحته وكيانه، ولن يقوى على مخاوفها إلا من كان شديد الثقة بنفسه. وإذا كان التقييد رصفًا لطريق واضح لا تتيه فيه الخطى، فإن الحرية تترك الإنسان وحيدًا بإزاء عشرات من الطرق عليه أن يختار منها ما يلائم رغباته وظروفه. وأنه ليدري أن بعض هذه الطرق قد تورده موارد الهلاك والدمار. لذلك يؤثر أغلبية البشر أن يقبلوا القيود ويعيشوا في ظلها آمنين. ولعلهم في صميم أنفسهم ينظرون إلى الحرية وكأنها مقامرة غير مضمونة أو معاهدة مع الشيطان.
وهذا محزن للذهن المتأمل، غير أن الإنسانية، كما قلنا، تؤثر سعادتها وسلامتها على كل شيء آخر. ومعها الحق.
على أننا، ونحن نفند مزاعم المعارضة، غير مضطرين إلى الاكتفاء بفكرة نظرية حول الحرية، فإن الشعر الحر الذي يملأ الكتب والصحف اليوم يمدنا هو نفسه بالدليل على أن الحرية أصعب من التقييد. فلو أنشأنا دراسة مفصلة تقوم على الإحصاء وقارنَّا بين الأغلاط العروضية الواردة في الشعر المعاصر، قبل الشعر الحر وبعده، لدلت النتائج على أن من أسهل الأمور أن يقع الشاعر الذي يستعمل الأسلوب الحر في أغلاط الوزن والزحاف. وأبرز دليل على ما نذهب إليه أن الشاعرين نزار قباني وفدوى طوقان ينظمان قصائد بالأوزان القديمة وقصائد حرة فلا تقع أغلاط الوزن إلا في قصائدهما الحرة. وأن الناقد العروضي ليبتسم عاذرًا حين يرى هذه الظاهرية الطريفة، فلن يرتاب أحد يسمو شاعرية نزار وفدوى، وقد اعترف لهما العصر برهافة السمع. ولكن الشعر الحر