إلى سد الفراغ الذي يحسونه. ولا ينشأ هذا الفراغ إلا من وقوع تصدع خطير في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه الأمة. ويغلب أن يكون الفرد المبدع غير واعٍ وعيًا حقًّا لهذا التصدع، غير أنه مع ذلك يندفع إلى التجديد الذي يعوض عما تصدع، وهو في هذا مقود بمحتمات بيئية قاهرة لا قدرة له على مقاومتها. إنه ليشعر بضغط داخلي مستبد يدفعه دفعًا إلى إحداث هذا الجديد. ولعله في اندفاعه إلى الإبداع ينساق بعين الدافع القسري الذي يجعل ماء ذا مستوى عالٍ يندفع إلى أول بقعة منخفضة يصادفها ولا يكف حتى يملأها. إن تشبيهنا هذا ليس رديئًا، فلعل علم الاجتماع يقرنا على هذا الاعتراف بسطوة التيارات الاجتماعية على الذهن الإنساني. هذا بالإضافة إلى أن ما يسمونه بدعوة "الفن للحياة" تستريح إلى مثل هذه الفكرة التي تجعل المجتمع هو الجذر الأساسي لكل حركة أدبية.
ولعل الدليل على أن حركة "الشعر الحر" كانت مقودة بضرورة اجتماعية محضة هو أن محاولات وأدها قد فشلت جميعًا، فما زال تيار الشعر الحر يشتد ويتلاطم حتى اضطر مؤتمر الأدباء العرب الثالث في القاهرة إلى أن يعترف به رسميًّا ويدخله في أبحاثه الرئيسية. وهل في وسع المهاجمات، مهما قويت وأصرت، أن تقتلع حركة انبعثت من صميم الظروف الاجتماعية للفرد العربي؟ إن حركة ما ليس عرضًا خارجيًّا يسهل نزعه بمقال أو مقالات، بمقاطعة أو استنكار. وهذا لأنها، كما قلنا، اندفاع محتوم لملء فراغ وإقامة تصدع. والحق أن في إمكاننا أن نعد حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محضة تحاول بها الأمة العربية أن تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث، شأنها في هذا شأن سائر الحركات المجددة التي تنبعث اليوم في حياتنا، في مختلف المجالات.
إن العوامل الاجتماعية الموجبة التي جعلت الشعر الحر ينبثق كثيرة. ولكننا سنحصي منها في بحثنا هذا أربعة. وكلها، كما سنرى، تتعلق