هذه العوامل الخمسة تبدو لنا العوامل الرئيسية التي أحاطت بحركة الشعر الحر، ولكنها ليست العوامل كلها. إن من الممكن أن ننظر إلى الحركة من زوايا أخرى فنرى فيها مظهرًا لضيق الشباب بهالة التقديس التي يحيط بها النقاد العرب أدبنا، وكأن هذا الأدب كمال لا غاية بعده.
ولعل التقديس يعد في نظر الجيل العامل نوعًا من الجمود، وذلك يتضمن فكرة التحقق والاكتمال والوصول، وهي فكرة تجعل العمل والجهد شيئًا لا داعي له ولا فائدة فيه. وقد يكون جيلنا متبرمًا بمضمونات الشعر القديم، وعندما وجد أن أشباح الماضي تعشعش في هذه الأوزان قرر أن يتركها فترة ليبني كيانًا شعريًّا في أوزان جديدة ريثما يتاح له الاستقلال الكامل فيعود إلى هذا القديم بنظرة أصفى وفهم أعمق.
وإنه ليهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحر، بصورتها الحقة الصافية، ليست دعوة لنبذ شعر الشطرين نبذًا تامًّا، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل، وتحل محلها، وإنما كان كل ما ترمي إليه أن تبدع أسلوبًا جديدًا توقفه إلى جوار الأسلوب القديم وتستعين به على بعض موضوعات العصر المعقدة. ولا أظنه يخفى على المتابعين أن بعض الموضوعات تنتفع بالأوزان القديمة أكثر ما تنتفع بالوزن الحر.
ولذلك لا نرى وجهًا نبرر به ميل بعض الناشئة إلى أن ينظموا شعرهم كله بالأوزان الحرة "وقد تناولت هذه الظاهرة بالنقد في الفصل السابق".
غير أن التطرف شيء مألوف في تاريخ الدعوات الأدبية والاجتماعية. ونحسب أن كل حركة تبدأ متطرفة أولًا، ثم ترتد إلى الاعتدال بعد أن تشذبها التجارب وتصقلها الحاجة. ثم إننا على يقين من أن كثيرًا من المغالين في استعمال الشعر الحر سيرتدون في السنين القادمة إلى الاعتدال والاتزان ويعودون إلى الأوزان الخليلية فيكتبون بها بعض شعرهم.
أما اليوم فنحن في شيء من القلق على الحركة، تقلقنا هذه المغالاة التي تصاحبها، وتلك الحدة والعصبية التي يكتب بها بعض أنصارها المتحمسين