والنقد العربي المعاصر جدير بأن يلتفت إلى هذه الوحدة الوثيقة، وينبه إلى ما في الفصل بين وجهيها من خطر على الفكر والأمة. غير أن الحركات الاجتماعية والأدبية لا تخضع للمنطق العقلي وإنما يتحكم فيها قانون التطور الاجتماعي. ولقد جاء عصرنا هذا على أثر العصر المظلم الذي غلبت فيه على الشعر العربي القوالب الشكلية والصناعية الفارغة والأشكال التي تعبر عن حاجة حيوية. ووجد الشاعر الحديث نفسه خلفًا لأجيال من الشعراء يكتبون الألغاز والمهمل والتشطيرات ولزوم ما لا يلزم وكل ما يدل على أنهم لا يريدون إيصال مضمون لازم معين إلى قرائهم، وإنما همهم أن يخلقوا أشكالًا مجردة ذات قيمة ظاهرية وحسب. وقد كان رد الفعل المباشر، عند الشاعر المعاصر، أن يتجه إلى العناية بالمضمون ويحاول التخلص من القشور الخارجية. وكانت حركة "الشعر الحر" أحد وجوه هذا الميل لأنه، في جوهره، ثورة على تحكيم الشكل في الشعر. إن الشاعر الحديث يرفض أن يقسم عباراته تقسيمًا يراعي نظام الشطر، وإنما يريد أن يمنح السطوة المتحكمة للمعاني التي يعبر عنها.
ونظام الشطرين، كما سبق أن قلنا، متسلط، يريد أن يضحي الشاعر بالتعبير من أجل شكل معين من الوزن، والقافية الموحدة مستبدة لأنها تفرض على الفكر أن يبدد نفسه في البحث عن عبارات تنسجم مع قافية معينة ينبغي استعمالها، ومن ثم فإن الأسلوب القديم عروضي الاتجاه، يفضل سلامة الشكل على صدق التعبير وكفاءة الانفعال، ويتمسك بالقافية الموحدة ولو على حساب الصور والمعاني التي تملأ نفس الشاعر. وكل هذا إيثار للأشكال على المضمونات، بينما يريد العصر أن ينشغل بالحياة نفسها وأن يبدع منها أنماطًا تستنفد طاقته الفكرية والشعورية الزاخرة. إن كل ميل إلى تحكيم الشكل في المعنى يغيظ الشاعر المعاصر ويتحداه، وهذا هو السبب في ما نراه من مبالغة بعض الناشئين في استعمال الأوزان الحرة حتى كادوا ينبذون الأوزان القديمة نبذًا تامًّا.