بالي أنني إنما دعوت تلك الدعوة الحارة، إلى إقامة الشعر على أشطر غير متساوية، تفعيلاتها غير متناسقة في العدد؛ لأنني أدعو أيضًا إلى تغيير نظام المباني، ولأنني أنفر من التناظر وأتعطش إلى هدمه والثورة عليه.
وعندما استجاب كثير من شعراء العصر إلى دعوة الشعر الحر بدأ طراز المباني يتغير. وماذا نجد اليوم؟ لقد أصبح المهندس، حين يبني بيتًا أو عمارة، يتعمد ألا يجعلها متناظرة، فما يكاد يلاحظ أقل ميل إلى هذا التناظر، حتى يُنزل بالنسق فوضى من نوع ما، تخلخله ولو على شكل رسوم وخطوط وألوان لا نموذج فيها، ولا مقياس لها، وإنما هي نثر بلا تخطيط.
وعلى هذا، تكون سطوة الشعر الحر على الحياة العربية اليوم، ناشئة عن أننا نتأثر بطراز المباني التي نحيا فيها، وهي مبانٍ ثائرة على التناظر ثورة واضحة لكل ذي بصر. وإني لأومن إيمانًا قويًّا بأن الشعر والفن ليسا معزولين عن الحياة، وإنما يرتبطان بها ارتباطًا كاملًا. ومن ثم فإن تخطيط شوارعنا الحديثة وطراز مبانينا لابد أن يؤثر تأثيرًا مباشرًا في شعرنا وفنونا. وهذا هو الحذر الكامن وراء سطوة الشعر الحر على حياتنا الحديثة، في ظني. وعلى ذلك فإن الذين ينادون بضرورة القضاء على شعر التفعيلة الذي لا نسق ثابتًا له، إنما يتغافلون عن طراز بيوتنا وأشكال شوارعنا وينسون أنها لا بد أن تترك طابعها على أذهاننا وميولنا النفسية وتدفعنا إلى جهة معاكسة للتناظر الذي ننفر منه اليوم، ونحاول دائبين أن نحدث فوضى تخل به ولو إخلالًا جزئيًّا.
٥- إيثار المضمون:
يتجه الفرد العربي المعاصر على العموم إلى تحكيم المضمون في الشكل، وهذا مرتبط بما نراه من ميل العصر إلى الإنشاء والبناء، وهو ميل عام يستوعب مختلف مظاهر حياتنا. إن الشكل والمضمون يعتبران في أبحاث الفلسفة الحديثة وجهين لجوهر واحد لا يمكن فصل جزئيه إلا بتهديمه أولًا.