محاضرات في جنيف عنوانها ((ما هي المدينة الأوربية؟)) وهو من العلماء الذين يرون أن المدنية الغربية لم تتأثر بالشرق، وأنها مدينة مفردة ممتازة، ونلخص هنا كلامه فيما نحن بصدده:
((المدنية اليونانية هي مركز المدينة الغربية الحاضرة، وكان المهم عند رجالها نشوء قوى الإنسان نشوءاً مناسباً وكان المثل الكامل عندهم الجسم الجميل المتناسب، وليس هذا إلا اعتداداً بالمحسوسات اعتداداً كبيراً، وكان أكبر عنايتهم بالرياضة البدنية والألعاب الرياضية والرقص وغيره، وكان التثقيف الذهني الذي يحتوي على الشعر والغناء والتمثيل والفلسفة وعلوم الطبيعة لا يتجاوز حداً خاصاً حتى لا يكون ارتقاء الذهن على حساب الجسم، وكان الدين خلواً من الروحانية المعنوية؛ لم يكن فيه علم الدين ولا طبقة رجال الدين. أما اللون الروحي الذي في تقاليد ((أزفس)) وغيرها فإنما هو مستعار من الشرق ولا يصح أن ينسب إلى المدينة اليونانية)) .
ولاحظ كثير من العلماء الأوربيين رقة الدين في اليونان وقلة الخشوع والجد في أعمالهم وكثرة اللهو والطرب في حياتهم. يقول ليكي في كتابه ((تاريخ أخلاق أوربا)) : ((إن الحركة اليونانية كانت عقلية وذهنية محضة، وكانت الحركة المصرية بالعكس من الأولى، روحية باطنية. وينقل ((أبوليس)) المؤلف الرومي قوله: ((إن المصريين كانوا يعظمون آلهتهم بالتضرع والبكاء، وكان اليونانيون يعظمون آلهتهم بالرقص والغناء)) ويعلق عليه بقوله: ((لا ريب أن التاريخ اليوناني يصدق ذلك ويؤيده، فلا نعلم ديناً من الأديان يزاحم دين اليونان وتقاليده في كثرة الأفراح والأعياد والألعاب وفي قلبه الخشية والخشوع، فلم يكن اليونان يعظمون الله تعالى إلى كما يعظمون شيوخهم وعظماءهم، وكانوا يكتفون في تعظيمه وتمجيده برسوم عادية وتقاليد جارية)) .
وكان لليونان فلسفة إلهية وعقائد يستغرب معها الخشوع لله وعبادته والتضرع له والالتجاء إليه والاطراح على عتبته، فإن من ينفي الصفات عن الله تعالى ويعطله وينفي عنه الاختيار والأفعال والخلق والأمر في هذا الكون، ويربط هذا العالم بما يسمونه ((العقل الفعال وحركات الأفلاك)) فإنه بطبيعة هذه العقيدة لا يقصد الله في حياته العملية إلا تقليداً، ولا يرجوه ولا يهابه ولا يحبه ولا يخر لعظمته، ولا يستغيث به في شدته ولا يسبح بحمده ويعيش كأنه إله ولا رب؛ فإذا سمعنا أن اليونان لم يكونوا خاشعين لله وكانت عبادتهم وأعمالهم الدينية