انكسار الكنيسة اللاتينية سبب قوة العصبية والقومية والوطنية:
قدمنا أن الوطنية والقومية والاعتداد الشديد بالشعب والموقع الجغرافي من خصائص الطبع الأوربي الذي سرى في العنصر الأوربي مسرى الروح، وجرى منه مجرى الدم وأصبح طبيعة ثانية له، ولكن النصرانية قهرت هذه الطبيعة، لأنها - على علاتها، وبرغم ما طرأ عليها من التحريف والتبدل - لا يزال عليها مسحة من تعليم المسيح، وفيها أثارة من علمه، والدين السماوي مهما تحرف وتغير لا يعرف الفرق المصطنعة بين الإنسان والإنسان، ولا يفرق بين الأجناس والألوان والأوطان، فجمعت النصرانية الأمم الأوربية تحت لواء الدين وجعلت من العالم النصراني عشيرة واحدةِ، وأخضعت الشعوب الكثيرة للكنيسة اللاتينية فغلبت العصبية القومية والنعرة الوطنية، وشغلت الأمم عنها لمدة طويلة، ولكن لما قام لوثر سنة ١٤٨٣ - ١٥٢٦ م بحركته الدينية الإصلاحية الشهيرة ضد الكنيسة اللاتينية، ورأى من مصلحة مهمته أن يستعين بالألمان جنسه ونجح في عمله نجاحاً لا يستهان بقدره، وانهزمت الكنيسة اللاتينية في عاقبة الأمر فانفرط عقدها، استقلت الأمم، وأصبحت لا تربطها رابطة، ولم تزل كل يوم تزداد استقلالاً في شؤونها وتشتتاً. حتى إذا اضمحلت النصرانية نفسها في أوربا قويت العصبية القومية والوطنية، وكان الدين والقومية ككفتي ميزان كلما رجحت واحدة طاشت الأخرى، ومعلوم أن كفة الدين لم تزل تحف كل يوم، ولم تزل كفة منافسته راجحة، وقد أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية الفاضل الإنجليزي المعروف لورد لوثين Lord Lothian السفير البريطاني السابق في أمريكا في خطبته التي ألقاها في حفلة جامعة عليكرة في يناير سنة ١٩٣٨ م.
((لما قضت حركة لوثر التي تدعى حركة إصلاح الدين على وحدة أوربا الثقافية والدينية، انقسمت هذه القارة في إمارات شعبية مختلفة، أصبحت منازعاتها ومنافساتها خطراً خالداً على أمن العالم)) .
وكان نتيجة الانحطاط الديني، وانخفاض مبادئ الدين والأخلاق، رجحان كفة الوطنية والجنسية؛ يقول ((لورد لوثين)) في نفس هذه الخطبة: