لأسباب تاريخية عقلية، طبيعية قاسرة، ذكرناها في البحوث السابقة، تحولت أوربا النصرانية جاهلية مادية، تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية، وفضائل خلقية، ومبادئ إنسانية، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلا باللذة والمنفعة المادية، وفي الحياة السياسية إلا بالقوة والغلبة، وفي الحياة الاجتماعية إلا بالوطنية المعتدية والجنسية الغاشمة، وثارت على الطبيعة الإنسانية، والمبادئ الخلقية، وشغلت بالآلات، واستهانت بالغايات، ونسيت مقصد الحياة، وبجهادها المتواصل في سبيل الحياة وبسعيها الدائب في الاكتشاف والاختبار مع استهانتها المستمرة بالتربية الخلقية وتغذية الروح وجحود بما جاءت به الرسل، وبإمعانها في المادية، وبقوتها الهائلة مع فقدان الوازع الديني، والحاجز الخلقي، أصبحت فيلاً هائجاً، يدوس الضعيف، ويهلك الحرث والنسل، وبانسحاب المسلمين من ميدان الحياة وتنازلهم عن قيادة العالم وإمامة الأمة، وبتفريطهم في الدين والدنيا، وجنايتهم على أنفسهم وعلى بني نوعهم، أخذت أوربا بناصية الأمم، وخلفتهم في قيادة العالم، وتسيير سفينة الحياة والمدنية التي اعتزل ربَّانُها، وبذلك أصبح العالم كله - بأممه وشعوبه ومدنياته - قطاراً سريعاً تسير به قاطرة الجاهلية والمادية إلى غايتها، وأصبح المسلمون - كغيرهم من الأمم - ركاباً لا يملكون من أمرهم شيئاً، وكلما تقدمت أوربا في القوة والسرعة، وكلما ازدادت وسائلها ووسائطها، ازداد هذا القطار البشري سرعة إلى الغاية الجاهلية حيث النار والدمار والاضطراب والتناحر والفوضى الاجتماعي والانحطاط الخلقي والقلق الاقتصادي والإفلاس
الروحي، وها هي أوربا تستبطئ الآن أسرع قطار، وتريد أن تصل إلى غايتها بسرعة الطائرة بل بسرعة القوة الذرية.