ما أخطأ المجتمع الجاهلي فهم هذه الدعوة ومراميها، وما غُمَّ على أهله أمرها، وأدركوا عندما قرع أسماعهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم أن دعوته إلى الإيمان بالله وحده سهم مسدَّد إلى كبد الجاهلية ونعي لها، فقامت قيامة الجاهلية ودافعت عن تراثها دفاعها الأخير، وقاتلت في سبيل الاحتفاظ به قتال المستميت، وأجلبت على الداعي صلى الله عليه وسلم بخيلها ورجلها، وجاءت بحدها وحديدها:{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} ووجد كل ركنٍ من أركان هذه الحياة ومن أثافي الجاهلية نفسه مهدداً وحياته منذرة، وهنا وقع ما تحدث عنه التاريخ من حوادث الاضطهاد والتعذيب، وكان ذلك آية توفيق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصاب الغرض، وضرب على الوتر الحساس، وأصاب الجاهلية في صميمها وفي مقتلها، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته ثبوتاً دونه ثبوت الراسيات، لا يثنيه أذى، ولا يلويه كيد، ولا يلتفت إلى إغراء، ويقول لعمه:((يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه (١)) .
في سبيل الدين الجديد:
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة حجة يدعو إلى الله وحده والإيمان برسالته واليوم الآخر في كل صراحة، لا يكنى ولا يلوّح ولا يلين، ولا يستكين ولا يحابي ولا يداهن ويرى في ذلك دواء لكل داء، وقامت قريش وصاحوا به من كل جانب، ورموه عن قوس واحدة، وأضرموا البلاد عليه ناراً ليحولوا بينه وبين أبنائهم وإخوانهم فأصبح الإيمان
به والانحياز له جد الجد، لا يتقدم إليه إلا جاد مخلص