أوربا فالتنازع على البقاء فيها شديد، والكفاح للحياة دائم مستمر، لتزاحم العمران وضيق المناطق وقلة وسائل المعيشة، وقد حصرت الجبال
والأنهار الأجناس الأوربية، في نطاق طبعي دائم، وبالأخص الجزء الأوسط الغربي والجزء الجنوبي من أوربا، لا يسمح لممالك واسعة عظيمة، وقد شاءت طبيعة هذه القارة أن تكون منشأ لممالك ضيقة صغيرة، لذلك كان التصور السياسي في أوربا في القديم لا يكاد يجاوز ممالك بلدية لا تزيد منطقتها على أميال مستقلة استقلالاً تاماً، وأكبر مظهر لهذا التصور أرض يونان حيث وجدت من فجر التاريخ عشرات من مدن صغيرة مستقلة.
فلا عجب إذا كان اليونان يدينون بالوطنية وينتحلونها، وقد سلم ((ليكي)) أن الفكرة الوطنية هي الفكرة السائدة في اليونان، وكانت الفكرة العالمية التي قد نطق بها بعض حكمائهم كسقراط وانكساغورس شاذة لم تنل أنصاراً وانتصاراً في يونان، فكان نظام أرسطاطاليس الأخلاقي مبنياً على التمييز بين اليوناني وغير اليوناني، وكان حب الوطن يتقدم فضائل الأخلاق التي أجمع عليها حكماء اليونان، وأن أرسطاطاليس لم يكتف بحب وطنه والولاء له فحسب؛ بل قال: إن اليونانيين ينبغي لهم أن يعاملوا الأجانب بما يعاملون به البهائم؛ وقد راجت هذه الفكرة الوطنية الضيقة في الأوساط اليونانية وتغلغلت في الأحشاء، حتى لما قال فيلسوف إنه لا يخص مواطنيه بمواساته بل سيكون بره عاماً لجميع اليونانيين استشرفه الناس عجباً ونظروا إليه شزراً.
خصائص الحضارة الرومية:
خلف اليونان الروم وفاقوهم في القوة والتنظيم للمملكة واتساع الدولة وصفات الجندية، ولكن لم يلحقوا بهم بعد في العلم والفلسفة والآداب والشعر والتهذيب واللباقة والمدنية التي كان للإغريق فيها فضل وتقدم على جميع الأمم المعاصرة وعلى الروم أيضاً الذين كانوا لا يزالون في دورهم العسكري، فخضعوا لهم علمياً وتطفلوا على مائدتهم واقتبسوا من علومهم وفلسفتهم وأفكارهم.
يقول ليكي:
((إن اليونان كانت لهم ثروة علمية ضخمة أنتجوها وزادوا فيها على مر القرون والعصور، وكانت رومة لا تزال في طورها الجندي لا تملك أثراً من الآثار