ولا شريعة إلهية، ولم يكن عندهم إلا شبح ديني لو حاول أن يسير بالنوع الإنساني على صراط مستقيم في طرق الفكر والعمل لما استطاع، ولم يكن له إلا أن يكون حجر عثرة وسداً في سبيل ارتقاء العلم، والحكمة، وهكذا كان، وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي نبذوا الدين بالعراء، واختاروا طريقاً لم يكن دليلهم فيها إلا المشاهدة والاختبار والقياس والاستقراء، ووثقوا بهذه الدلائل التي هي في حاجة بنفسها إلى الهداية والنور، وجاهدوا واجتهدوا باحتذائها في طرق الفكر والنظر والتحقيق والاكتشاف والبناء والتنظيم، ولكن ضلت خطوتهم الأولى في كل جهة وفي كل مجال، وانصرفت فتوحهم في ميادين العلم والتحقيق، ومحاولاتهم في سبيل الفكر والنظر إلى غاية لم تكن صحيحة، إنهم بدأوا وساروا من نقطة الإلحاد والمادية، نظروا في الكون على أنه ليس له إله، نظروا في الآفاق والأنفس على أنه لا حقيقة فيها إلا المشاهد والمحسوس، وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء، إنهم أدركوا نواميس الفطرة بالاختبار والقياس ولكنهم لم يتوصلوا إلى فاطرها، إنهم وجدوا الموجودات مسخرة واستخدموها لأغراضهم، ولكنهم جهلوا أنهم ليسوا سادتها ومدبريها، بل هم خلفاء سيدها الحق، فلم يروا أنفسهم مسئولين عنها، ولم يروا على أنفسهم عهدة وتبعة، فاختل أساس مدنيتهم وتهذيبهم، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة النفس، واتخذوا إلههم هواهم، وفتنتهم عبادة هذا الإله، وسارت بهم هذه العبادة في كل ميدان من ميادين الفكر والعمل على طريق زائغة خلابة رائعة، ولكن مصيرها إلى الهلاك.
هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية فصارت آلة الهلاك الإنسان، وصاغ الأخلاق في قالب الشهوات والرياء والخلاعة والإباحة، وسلط على المعيشة شيطان الأثرة والشح والفتك ببني النوع، ودس في عروق الاجتماع وشرايينه سموم عبادة النفس والأنانية والإخلاد إلى الراحة والتنعيم، ولطخ السياسة بالجنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة، فجعلها لعنة كبرى للإنسانية.
والحاصل أن البذرة الخبيثة التي ألقيت في تربة أوربا في نهضتها الثانية لم تأت عليها قرون حتى نبتت منها دوحة خبيثة، ثمارها حلوة ولكنها سامة، أزهارها جميلة ولكنها شائكة، فروعها مخضرة ولكنها تنفث غازاً ساماً لا يرى، ولكنه يسمم دم النوع البشري.