وقد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن بداية هذا العالم ومصيره، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته، وآتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفواً بدون تعب، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مباديها ولا مقدماتها التي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول، لأن هذه العلوم وراء الحس والطبيعة، لا تعمل فيهما حواسهم، ولا يؤدي إليها نظرهم، وليست عندهم معلوماتها الأولية.
لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً، وأبدوا البحث أُنفاً وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خِرِّيتاً، وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً، وأشد تعباً وأعظم اشتغالاً بالفضول من رائد لم يقتنع بما أدى إليه العلم الإنساني في الجغرافية، وما حدد وضبط في الخرائط على تعاقب الأجيال، فحاول أن يقيس ارتفاع الجبال وعمق البحار من جديد، ويختبر الصحارى والمسافات والحدود بنفسه على قصر عمره، وضعف قوته، وفقدان آلته، فلم يلبث أن انقطعت به مطيته وخانته عزيمته، فرجع بمذكرات وإشارات مختلة، وكذلك الذين خاضوا في الإلهيات من غير بصيرة، وعلى غير هدى، جاءوا في هذا العلم بآراء فجة، ومعلومات ناقصة، وخواطر سانحة، ونظريات مستعجلة، فضلوا وأضلوا.
وكذلك منحهم الأنبياء عليهم السلام مبادئ ثابتة ومحكمات هي أساس المدنية الفاضلة، والحياة السعيدة في كل زمان ومكان، فحرموها على تعاقب الأعصار، فبنوا مدنيتهم على
شفا جرف هار، وأساس منهار، وعلى قياس واختيار، فزاغ أساس المدنية وتداعى بناؤها، وخر عليهم السقف من فوقهم.
وكان الصحابة رضي الله عنهم سعداء موفقين جداً، إذ عوّلوا في ذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفوا المئونة وسعدوا بالثمرة، ووفروا ذكائهم وقوتهم وجهادهم في غير جهاد، ووفروا عليهم أوقاتهم فصرفوها فيما يعنيهم من الدين والدنيا وتمسكوا بالعُروة الوثقى، وأخذوا في الدين بلب اللباب.