في هذا المجتمع الحائر المظلوم قام محمد صلى الله عليه وسلم فحل عقاله وفك إساره ثم حل منه محل الروح والنفس وشغل منه مكان القلب والعين. وهو المبشر الذي جمع الله له
أسمى صفات الجمال والكمال وأبلغ معاني الحسن والإحسان. من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه. يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، فاندفع إليه الحب الصادق كما يندفع المال إلى الحدور. وانجذبت إليه النفوس والقلوب انجذاب الحديد إلى المغناطيس. كأنما كان من القلوب والأرواح على ميعاد. وأحبه رجال أمته وأطاعوه حباً وطاعة لم يسمع بمثلهما في تاريخ العشاق والمتيمين. ووقع من خوارق الحب والتفاني في سبيل طاعته وإيثاره على النفس والأهل والمال والولد ما لم يحدث قبله ولن يحدث بعده.
نوادر الحب والتفاني:
وُطئ أبو بكر بن أبي قحافة في مكة يوماً بعدما أسلم وضرب ضرباً شديداً ودنا منه عتبه بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل فقال: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفاً، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذه أمك تسمع! قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح! قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكئ