للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والمناصب تهافت الفراش على الضوء، بل كانوا يتدافعون في قبولها ويتحرجون من تقلدها، فضلاً عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة ويزكوا أنفسهم وينشروا دعاية لها وينفقوا الأموال سعياً وراءها، فإذا تولوا شيئاً من أمور الناس لم يعدوه مغنماً أو طعمة أو ثمناً لما أنفقوا من مال أو جهد، بل عدوه أمانة في عنقهم وامتحاناً من الله، ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم ومسئولون عن الدقيق والجليل، وتذكروا دائماً قول الله تعالى:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} .

ثالثاً: أنهم لم يكونوا خدمة جنس، ورسل شعب أو وطن، يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان، لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاماً، ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم، ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم. إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً وإلى عبادة الله وحده، كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد: ((الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام (١)) فالأمم عندهم سواء والناس عندهم سواء، الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٢) } .

وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر- وقد ضرب ابنه مصرياً، وافتخر بآبائه قائلاً: خذها من ابن الأكرمين، فاقتص منه عمر-: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً (٣) . فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين


(١) البداية والنهاية لابن كثير.
(٢) من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
(٣) القصة بتمامها في تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي.

<<  <   >  >>