" {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ": هذه هي الغاية العظمى من خلق الجن والإنس، وإذا تخلى الواحد من الجن والإنس من المكلفين منهم عن تحقيق هذه الغاية صار لا فرق بينه وبين سائر المخلوقات، لا فرق بينه وبين البهائم غير المكلفة، إلا أن التبعة عليه أعظم؛ لأن غير المكلفين لا يعاقبون ولا يؤاخذون، ولذا يقول الكافر حينما يرى البهائم بعد الاقتصاص منها والمقاصة تكون تراباً، فحينئذ يقول الكافر:{يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [(٤٠) سورة النبأ].
فالمكلف عليه هذه المسؤولية العظيمة، الأمانة التي عجز عن حملها السماوات والأرض، وحملها الإنسان، فهو مكلف بهذه العبودية من غير اختيار، من غير اختيار، لا بد أن يحقق هذا الهدف، إذا لم يحقق هذا الهدف فإن مآله إلى العذاب -نسأل الله السلامة والعافية- كل بقدره وبحسبه، وبحسب ما يخل به من فروع هذه العبودية.
" {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ": هذا حصر، وقد يقول قائل: إن الجن والإنس لهم وظائف في هذه الحياة غير العبادة، وإذا نظرت بأحوال الناس وجدت أن العبادة بالنسبة لأوقاتهم إنما تستغرق جزءاً يسيراً لا سيما إذا اقتصر على الواجبات، وترك ما لا يؤاخذ بتركه فإن نسبة فعل هذه التكاليف إلى بقية وقته نسبة يسيرة، والصلاة كم تأخذ عليه في اليوم والليلة؟
ساعة أو ساعتين من أربعة وعشرين ساعة، هذا ما يتكرر في كل يوم، الصيام يأخذ عليه واحد على اثنا عشر من عمره، الحج في عمره مرة واحدة، وهكذا، وهو مخلوق لتحقيق العبودية، وتجد أكثر الوقت عنده في أمر دنياه، لكن الأصل أن المسلم متلبس بالعبادة في جميع أحواله، وإذا التفت إلى شيء من أمور دنياه فإنما هو من أجل تحقيق هذه العبودية؛ لأنه لا يمكن أن يحقق العبودية إلا بامتثال:{وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(٧٧) سورة القصص]، لكن إذا استغرق وقته وجهده في أمور الدنيا، وجعل الدين تبع لهذه الدنيا، صار عبداً للدنيا، ((تعس عبد الدرهم، تعيس عبد الدينار))، وحينئذ يكون مخلاً بتحقيق الهدف الذي من أجله خلق، وهو تحقيق العبودية لله تعالى.