يعني فهموا من هذه الآية كما فهمت عائشة، إضافة إلى أدلة أخرى، ولم يفهموا من آية القصر أنها للوجوب؛ لأن الأصل في رفع الجناح رفع الإثم، ورفع الإثم يعني أكثر ما يقال فيه أنه مستوي الطرفين.
هنا دقيق علم عائشة، وثاقب فهما ردت عليه، فقالت:"ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، ولو كان كما تقول لكان فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما": وهذا من دقيق فهمها؛ لأنها نظرت إلى السبب، سبب نزول الآية، وبينته، ونظير ذلك: إذا سئل عن أمر من أوجب الواجبات، لكنه يؤدى على هيئة أو في وقت يظن السامع أنه مؤثر، وهو في الحقيقة لا يؤثر يقال له: لا حرج، لا جناح عليك.
من تذكر فائتة، نام عن صلاة الصبح في أيام امتحانات، وقام مذهول، وركب سيارته إلى مدرسته، ونسي صلاة الفجر، فلما بقي من غروب الشمس من ذلك اليوم مقدار ربع ساعة، يسأل يقول: هل أصلي صلاة الصبح الفائتة في هذا الوقت؟
يقال: لا جناح عليك، لا حرج عليك، مع أنها لازمة، ويجب قضاء الفوائت فوراً، ((من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها))، هل معنى هذا أننا نقول: لا إثم عليك إذا صليت مجرد رفع الإثم؟ بل يجب عليه أن يصلي في هذا الوقت، والسياق يدل على هذا.
ومن هذا الباب قول عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "ولو كان كما تقول، لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما": يعني لو قيل: لا حرج عليك ألا تصلي في هذا الوقت، قلنا: له أن يؤخر، لكن لما قيل له: لا حرج عليك أن تصلي في هذا الوقت دل على أنه يرتفع عنه الإثم الذي توقعه، الإثم الذي تحرج منه وتوقعه في إيقاع هذه الصلاة في الوقت الذي نهي عن الصلاة فيه، وهنا تقول: ولو كان كما تقول لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وهل تدري فيما كان ذاك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر": يعني سبب النزول بين المراد ووضحه، لكن عامة أهل العلم في الألفاظ العامة -في النصوص العامة- ينظرون إلى السبب أو عندهم العبرة باللفظ؟