وذلك أيضا، لأن الشاعر إذ يندفع إلى مدح محمد عليه الصلاة والسلام، لا يحمله على ذلك طمع في مغنم أو خوف من مغرم، مما كان يحمل الشعراء على طرق أبواب الأمراء والقيام بين أيديهم مثنين ومادحين.. وإنما يحدوه إلى ذلك شعور داخلي لاهب، وكثيرا ما يكون هذا الشعور نقدا ذاتيا من الشاعر لنفسه وأسى مريرا على العهود الغابرة من عمره، ورغبة ملحّة في الالتجاء الى ساحة النبوة، والانغماس- بعد الرحلة المضنية- في مغتسل طهور من الأنوار والرحمة المحمدية.
والنفس الانسانية ذات شأن عجيب! .. إنها قد توغل بصاحبها في أودية التيه او الضياع، ولكنها تظل في حين دائم إلى قمم النور وشطآن النجاة.. لا تعجب إن رأيت صاحب هذه النفس شاردا في سلوكه منحطّا في أفانين غيّه، ثم أصغيت منه مع ذلك إلى أنين يحنّ إلى الطهر، ولوعة تترامى على أعتاب الرحمة الإلهية، وتسفح الدمع سخيا أمام واسطة هذه الرحمة، محمد عليه الصلاة والسلام.
فإن أوتي مثل هذا الانسان، مع ذلك، بيانا من الشعر، كان له فيه أروع قيثار يستخرج صدق أحاسيسه النيرانية، بل النورانية اللاهبة، ويصوغها في شجو يأخذ اللب ويأسر النفس.
وإذا صحّ أنّ أعذب الشعر أكذبه، فلا ريب أن أحّر الشعر أصدقه! ..
وإنما عذوبة الشعر صنعة كلامية وصقل لألفاظ، أما حرارته فهي النبض الذي يبعث فيه الحياة التي تسري بالتأثير في قلوب الآخرين.. وقديما قالت العرب: ليست النائحة كالثكلى.
ولا أذكر أني قرأت قصيدة، لشاعر مجيد، يمدح فيها محمدا عليه الصلاة والسلام، إلا وتملّكني منها تأثير كبير، واستبدّت بي رقة تذيب النفس، أيا كان الشاعر ومهما كان شأنه.
وإنما مردّ ذلك، إلى ما قلت: الشعر الذي أخذ حظه، إذ تحرك في ميدان فسيح من الوصف والبيان والإطراء، دون أن تشمّ فيه رائحة غلو أو تكلف في القول.. والشاعر الذي أفرغ أحاسيس قلبه، لوعة وحبا وإجلالا، في واحة تلك العبارات والأوزان.