فإن كنت في شك مما أقول، فدونك فاستعرض قصائد هذا الكتاب، وإنما هي قطوف منوعة لشعراء مختلفين في المذهب والسلوك، متدرّجين في العصور والتاريخ، تجد مصداق ما أقول، وتشعرّ بزفرة الصدق في ثنايا كلام كل منهم.
ثم انظر إلى شعر البوصيري، على سبيل المثال، وقارن بينه إذ كان يمدح به أمراء عصره، طمعا في مغنم أو انتجاعا لرزق، وبينه إذ اتجه به إلى مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تجد هناك التكلف الممجوج، والمعاني المفتعلة المصنّعة، وتجد هنا الرّفاء والرّصانة العجيبين، حتى لكأنّ شعره ينتشي ويطرب من ذاته، ثم تجد نفسك مأخوذا بمشاعر اللوعة الصادقة تسري في سائر جمله وكلماته! .. اصغ إليه وهو يقول:
يا رحيما بالمؤمنين إذا ما ... ذهلت عن أبنائها الرّحماء
يا شفيعا في المذنبين إذا أش ... فق من خوف ذنبه البرآء
جد لعاص، وما سواي هو العا ... صي، ولكن تنكّري استحياء
كلّ يوم ذنوبه صاعدات ... وعليها أنفاسه صعداء
أو ثقته من الذنوب ديون ... شدّدت في اقتضائها الغرماء
ما له حيلة سوى حيلة المو ... ثق إمّا توسل أو دعاء
راجيا أن تعود أعماله السّو ... ء بغفران الله وهي هباء
أو ترى سيآته حسنات ... فيقال استحالت الصّهباء
ولن أزيد عليك بعد هذه الأبيات وزخم المشاعر التي فيها، أي شيء. بل سأتركك مع واحة الشعر، تتنقّل من قصيد إلى قصيد، لترى مصداق ما أقول.