للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي: مستأنف.

وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين أمية في آخر عصر عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم، ثم لما كثر خوض الناس في القدر صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، ولكن ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره، فما شاء فقد أمر به، وما لم يشأ لم يأمر به; فلزمهم أنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وأنكروا أن يكون الله خالقًا لأفعال العباد، أو قادرًا عليها، أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له.

وزعموا أن نعمته التي بها يمكن الإيمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل وأبي لهب مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بمنْزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية، ولكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة، وهؤلاء أحدثوا أعمالهم

<<  <   >  >>