للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال ابن القيم: فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع. أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له. والثالث: الثناء على من تركه. والرابع: النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركيه، فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه، فعلى سبيل الاختيار والكراهية.

قوله: "ولا يتطيرون"، أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها، وسيأتي بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها إن شاء الله تعالى.

قوله: "وعلى ربهم يتوكلون"١. ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء، والرضى به ربًا وإلهًا، والرضى بقضائه، بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء، وعده من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، [البقرة، من الآية: ١٠٥] .

واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه الجهلة، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ٢، أي: كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله، كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سببا لكن لكونه سببا مكروهًا، لاسيما والمريض ـ يتشبث بما يظنه سببًا لشفائه ـ بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب، والتداوي على وجه لا كراهية فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا؟ في " الصحيحين "


١ البخاري: الطب (٥٧٥٢) , ومسلم: الإيمان (٢٢٠) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٤٦) , وأحمد (١/٢٧١) .
٢ سورة الطلاق آية: ٣.

<<  <   >  >>