يا هذا: لنا بك لطف يزيد على كل لطف، إذا تبت من الذنب أنسينا الملك ما كتب وإذا حاسبناك سترناك كيلا يرى الخلق اصفرار لونك بالخجل، يا طاهر الفطرة: لا تتدنس بأنجاس الزلل، شمر أذيال التقى عن مزبلة الهوى، واحذر رشاش الخطأ أن ينتضح أثواب النظافة.
وحل التكليف يحتاج إلى قوة التحرز، فانظر بين يديك (فَإِن زَلَلتُم مِن بَعدِ ما جاءَتكُم البَينات) فعيون العيون تغسل أدران القلوب.
كان أول أمرك سليما يوم (وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم) فأصلح آخر أمرك تسامح في الوسط. يا طويل الغيبة عن وطن (أَلَستَ) أين حنين شوقك.
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثَ شِئتَ مِنَ الهَوى ... ماالحُبُّ إِلا لِلحَبَيبِ الأَول
يا معرضا عنا: بمن تعوضت؟ يا ملتفتا عنا: لماذا فوضت؟؟ قف على الدرب وأنشد ظعائن الغاديني.
أَلا خَبِرونا أَينَ زُمَّت رِكابُكُم ... وَأَينَ اِستَقَرَت هُوجُكُم وَمَطاكُم
أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين.
المطيع يدل بالعمل، والمذنب ذليل بالزلل، والمخطىء يحرك أوتار الوجل، وينشد بتطريب الخجل.
مَن مُعيدٌ ذي الأأثل أَوما ... قَلَّ مِنها دَيناً عَليَّ وَفَرضا
سامِحاً بالقَليلِ مِن أَرضِ نَجدٍ ... رُبَّما أَقنَعً القَلَيلَ وَأَرضى
واعجبا؟؟ يستقرض المالك قطرة من الدمع، وقد خلق سبعة أبحر (لَهُ مُلُكُ السَمَواتِ والأَرض) وقد بعث رسالة (مَن ذا الذي يُقرِضُ الله) الكبرياء ردائه، وهو يقول: جعت فلم تطعمني قطع أعناق الألسن أن تعترض بحسام (لا يَسأل) ثم أقبل بإنعام؟ هل من سائل.
ما يسعه مسكسن، ويسعه قلب من تمسكن، غاب عن الأبصار، وبدا للبصائر.
واعجبا يتحبب إليك وهو عنك غني، وتتمقت إليه فقير، إن تأخرت قربك، وإن توانيت عاتبك، ما آثر عليك من المخلوقات شيئا، وأنت تؤثر عليه كل شيء، فنكس رأس الندم، قبل العتاب، فمالك عن هذا جواب.
صَحائِفُ عِندي لِلِعِتابِ طَويتُها ... سَتُنشَرُ يَوماً وَالحِسابُ يَطولُ
[الفصل الحادي والثلاثون]
[تضرع الصالحين]
لما رأى الصالحون سطوة الدنيا بأهلها، وتملك الشيطان قياد النفوس، لجأوا إلى حرم التضرع، كما يأوي الصيد المذعور إلى الحرم.
فلو رأيتهم يمشون في ثياب التجمل، عليهم قناع القناعة (يَحسَبُهُم الجاهِلُ أَغنياءَ مِنَ التَعَفُف) ينامون ولا نوم الغرقى، ويأكلون ولا أكل الثكلى تأكل كل يوم المصيبة، ولكن هدم الحزن أكثر من بناء العزاء.
لو كانت لك عين بصيرة عرفت القوم، وخط الولاية على وجه الولي قلم هندي، لا يعرفه إلا عالم به، تلمح القوم بأعين البصائر العواقب، ولم يروا عائقا عن المطلوب سوى النفس، فتلطفوا لقهرها بحيلة لا يعرفها " ابن هند " ولا يعلمها " ابن العاص " فلما أسروها فتكوا فيها، ولا فتك ابن طملجم " قلوبُ أسودٍ في صدور رجال
إِنّكَ لَو رَأَيتَ ذا العَزمِ مِنهُم رَأَيتَ لَيثا قَد حُورِب
إِذا هَمَّ أَلقى بَينَ عَينَيهِ عَزمَهُ
هبت زعازع الفكر، فقلبت أرض القلوب، فألقى فيها بذر العزائم، فسقته مزن الجد، فدبت الأرواح في أغصان المعاملة، فظهرت أزهارها، إذا رأوا ذكر الله ففاح عبير النور، أطيب عرفا من مسك، فقويت بريحه نفوس المريدين.
لا يحصل خطير إلا بخطر، فاخنس في خيسك، يا مخنث العزم، الربح في ركوب البحر، الدر في قعر اليم، العلم في ترك النوم، الفخر في هجر النفس.
من يحب العز يدأب إليه، فكذا من طلب الدر غاص عليه، لولا التخلل بالعبا ما جاءت مدحة " أنا عنك راض " لأبي بكر " ولولا إرسال البراءة إلى الضرة: طلقتك ثلاثا، ما اشتاقت الجنة إلى " علي ".
لَو قُرِب الدَرُّ عَلى جٌلاّبِهِ ... ما لَجَّ الغائِصُ في طِلابِهِ
وَلَو أَقامَ لازِماً أَصدافَهُ ... لَم تَكُنن التَيجانُ في حِسابِهِ
مَن يَعشَق العَلياءَ يَلِق عِندَها ... ما لَقي المُحِبُّ مِن أَحبابِهِ
[الفصل الثاني والثلاثون]
الإيمان بالقدر