وَلَم أَبكِ بُعدَ الدارِ عَني وَإِنّما ... بَكيتُ لِصَبرٍ كان لي فَعَدِمتُهُ
إِذا كانَ دَمعُ العَينِ بالسِرِّ شاهِداً ... فَلَيسَ بِخافٍ في الهوى ما جَحدتُهُ
[الفصل الرابع]
[في صفة الربيع]
إِذا تأيمت الأرض من زوج القطر، ووجدت لفقده مس الجدب، أخذت في ثياب (فَتَرى الأرضَ هامِدَةً) فإذا قوي فقر القفر، ألقى مد أكف الطلب يستعطي زكاة السحاب، فساق الصانع بعلا يسقي بعلا، فثارت للغياث مثيرة، فجاء الغيث بلا مثيرة (فَسُقناهُ إِلى بَلَدِ مَيت) وتأثير صناعة المعلم في البليد أعجب.
فلبس الجو مطرفه الأدكن، وأقبلت خيالة القطر شاهرة سيوف البرق، فأخذ فراش الهوى، يرش جيش النسيم، فباحث الريح بمكنون المطر، فاستعار السحاب جفون العشاق، وأكف الأجواد، فامتلأت الأودية أنهارا، كلما مستها يد النسيم حكى سلسالها سلاسل الفضة، فالشمس تسفر وتتنقب، والغمام يرش وينسكب " انعقد بعقد الزوجين عقد حب الحب " فلما وقعت شمس الشتاء في الطفل، نشأ أطفال الزرع فارتبع الربيع أوسط بلاد الزمان، فأعار الأرض أثواب الصبا، فانتبهت عيون الأرض من سنة الكرى، ونهضت عرائس النبات ترفل في أنواع الحلل، فكأن النرجس عين، وورقه ورق، فالشقائق يحكي لون الخجل والبهار يصف حال الوجل، والبنفسج كآثار العض في البدن، والنيلوفر يغفو وينتبه، والأغصان تعتنق وتفترق، والأراييج قد ثبت أسرارها إلى النسيم فنم، فاجتمعت في عرس التواصل فنون القيان، فعلا كل ذي فن على فنن، فتطارحت الأطيار مناظرات السجوع، فأعرب كل بلغته عن شوقه، فالحمام يهدر، والبلبل يخطب، والقمري يرجع، والمكاء يغرد، والهدهد يهدد، والأغصان تتمايل كلها تشكر للذي بيده عقدة النكاح، فحينئذ تج خياشيم المشوق ضالة وجده.
لي بِذاتِ البانِ أشجانُ ... حَبَّذا مِن أَجلِها البانُ
حَبَذا رَيَّاهُ يوقِظُهُ ... مِن نَسيمِ الفَجرِ رَيعانُ
حَبَذا وُرق الحَمامِ إِذا ... رَنَّحتها مِنهُ أَغصانُ
داعياتٌ بالهَديلِ لَها ... فيهِ أَسجاعٌ وأَلحانُ
أَعجمياتِ إِذا نَطَقتَ ... لَيس إِلا الشَوقُ تِبيانُ
كُلَما غَنَيتَني هَزَجاً ... هاجَني لِلذكرِ أَحزانُ
مالَ بي مَيلَ الغُصونِ بِها ... طَربي فالكُلُّ نَشوانُ
يا حَمامَ البانِ يَجمَعُنا ... وَجَدُنا إِذ نَحنُ جيرانُ
تُحنَ بالشكوة إِليَّ فَما ... بَينَ أَهلِ الشَوقِ كِتمانُ
يَتَشاكى الواجِدونَ جَوىً ... واحِداً وَالوَجدُ ألوانُ
أَنا مَخلوسُ القَرينِ وَأَنتُنَّ أَزواجٌ وَأَرقرانُ
وَبَعيدُ الدارِ عَن وَطَني ... وَلَكُنَّ البانُ أَوطانُ
لا تَزدَني يا عُذولُ جوى ... أَنا بِالأشواقِ سَكرانُ
[الفصل الخامس]
[يذكر فيه إشارة من حال سلمان الفارسي]
سابقة الأزل قضت لقوم بدليل (سَبَقَت) وعلى قوم بدليل (غَلَبَت عَلَينا شِقوَتُنا) فواأسفا، أين المفر؟ توفيق (سَبَقَت) نور قلوب الجن (فَقالوا إِنّا سَمِعنا قُرآناً عَجَبا) وخذلان (غَلَبَت) أعمى بصائر قريش فقالوا (أَساطيرُ الأَولين) أهل الشمال في جانب جنون البعد، وأهل اليمين في مهب شمال القرب، ما نفعت عبادة " إبليس " و " بلعام " ولا ضر عناد السحرة.
وحد " قس " وما رأى الرسول، وكفر " ابن أبي " وقد صلى معه، مع الضب ري يكفيه ولا ماء، والسمكة غائصة في الماء ولا ري.
دخل الرسول عليه الصلاة إلى بيت يهودي يعوده فقال له: أسلم تسلم، فنظر المريض إلى ابيه، فقال له: أجب أبا القاسم، فأسلم كان في ذلك البيت غريبا مثل " سلمان منا " فصاحت ألسنة المخالفين: ما لمحمد ولنا؟ ولسان الحال يقول: مريضنا عندكم! كيف انصرافي ولي في داركم شغل المناسبة تؤلف بين الأشخاص. ما احتمل " موسى " مرارة الغربة في دار " فرعون " وإن كان في " آسية " ما يسلين غير أن حق الأم أحق، فضرب على فيه فدام (وَحَرَمنا) إلى أنه أمته الأم، فصوت عود العود عند اجتماع الشمل.