يا جامد العين اليوم، غدا تدنو الشمس إلى الرؤوس، فتنفتح أفواه مسام العروق، فتبكي كل شعرة بعينس.
كأنك بالسماء قد نفضت أكمامها لسرعة فورانها، وانتثرت النجوم، و " يوسف " الهيبة قد برز، فقد قميص الكون.
نفحة فم الريح تحرك الشجر، ونفحة من في الصور تعمل في الصور، نفحة من الصور أماتت، والأخرى أعاشت، لا تعجبوا فإن نفحة نفخة الشتاء في صور البرد أماتت صور الأشجار، ونفس الربيع اعاد الروح.
ريح الدنيا بين مثير ولاقح، وريح الصور تثير الأبدان، وتلقح أشباح الأرواح لقراءة دفاتر الأعمال.
كان " الفضيل " ميتا بالجهل، و " ابن أدهم " مقتولا بالهوى، و " السبتي " هالكا بالمال، و " الشبلي " من جند " الجنيد " فنفخ في صور التوفيق، فانشقت عنهم قبور الغفلة، فصاح " إسرافيل " الاعتبار (كَذِلِكَ يُحيي اللَهُ المَوتى) .
إنما سمع " الفضيل " آية فذلت بها نفسه واستكانت، وهي كانت، إنما زجر " ابن أدهم " بموعظة واحدة، هاتف عاتبه، ولائم لامه، أخرجه من " بلخ " إلى الشام.
كانت عقدة قلوبهم أنشوطة، ومشد قلبك كله عقد، أقبلت المواعظ إلى ندى قلب رياض القلوب، فالتقى الماءان. كانت الأعمال تعرض عليهم فيرون الخيانة نقض عهد الزهد.
حَلَفتُ بِدينِ الحُبِ لا خُنتُ عَهدَكُم ... وَتِلكَ يَمينٌ لَو عَرَفَت غَموسُ
كان " الفضيل بن عياض " قد تعود البكاء، فكان يبكي في نومه حتى ينتبه أهل داره.
وكان " ابن أدهم " من شدة خوفه يبول الدم، وكذلك " سري ".
إذا خرجت القلوب بالتوبة من حصر الهوى إلى بيداء التفكر جرت خيول الدموع في حلبات الوجد، كالمرسلات عرفا.
إذا استقام زرع الفكر قامت العبرات تسقي ونهضت الزفرات تحصد، ودارت رحى التحير تطحن، واضطرمت نيران القلق فحصلت للقلوب ملة تتقوتها في سفر الحب.
اسمحوا بحرمة الوفاء، فما كل وقت يطلع " سهيل " طالما أمتم قلوبكم بالهوى، فأحيوها اليوم بوابل العبرات، إذا خرجتم عن المجلس فلا تذهبوا إلى البيوت، واطلبوا هذه المساجد خراب، وضعوا وجوهكم على التراب، " واستغيثوا بألسنة الفاقة من قلوب قد أحرقها الأسف على ضياع العمر في الهوى والبطالة " فإنه إذا صعد نفس " يعقوب " الحزن لم ينتبه دون جمال " يوسف ".
وَإِن شِفائي عِبرةً مُهَراقَةٌ ... فَهَل عِندَ رَسمٍ دراسٍ مِن مُعَوَّلِ
[الفصل الثاني والأربعون]
[الشيب علامة النهاية]
يامن مطية عمره قد أنضاها الحرص، هلا كففتها قليلا بزمام القناعة؟ فرب جد أعطب، ورب أكلة تمنع أكلات، وكثرة الماء شرق أو عزق؟ أخل بنفسك في بيت العزلة، واستعن عليها بعدول اللوم، ونادها بلسان التوبيخ، إلى كم؟ وحتى ومتى؟ ألم يأن؟ ويحك!! سرق لص الشيب رأس مال الشباب.
فَأَصبَحتُ مُفلِسَ العُمرِ ... فَهَل ليَ اليَومَ إلا زَفرَةَ النَدَمِ
يا نفس: ذهب عرش " بلقيس، وبلى جمال " شيرين " وتمزق فرش " بوران " وبقي نسك " رابعة ".
كانت أيام الشباب كفصل الربيع، وساعاته كأيام التشريق، والعيش فيه كيوم العيد، فأقبل الشيب يعد بالفناء، ويوعد بصفر الإناء، فأرخى مشدود أطناب العمر، ونقض مشيد سرائر القوى.
أديل ضعف الشيب على الشباب فعمل معول الوهن وراء الجلد في الجلد، فصار مربع الحياة قفرا قد خلت بطاحه، ومربع اللهو هباء تذروه الرياح، وإن الهالك من ضل في آخر سفره وقد قارب المنزل، أبقي بعد الشيب منزل غير البلى؟ بلى أنت تدري أين تنزل.
مرحلة الشيب تحط على شفير القبر، وقد اتخذت من رأي الهوى حصنا، فما هذا الأمل؟.
اتطلب ربيع وأنت في ذي القعدة؟! اللذة سلاف ولكن مزاجها زعاف، الهوى عارف في العاجلة، ونار في الآجلة، ومن تبصر تصبر.
أيظن الخائض في الدنيا أن له فراغا عنها؟؟ هيهات، ما يفرغ منها إلا من اطرحها.
فَما قَضى أَحَدٌ مِنها لُبانَتَهُ ... وَلا اِنتَهى أَرَبٌ إِلا إِلى أَرَبِ
أيتوهم المسوف بالتوبة أن لمرحلة الهوى آخر؟ كلا؛ إن الذي يقطعه عن الإنابة اليوم معه في غد، وما يزيده مرور الأيام إلا رسوخا بدليل: " يشيب ابن آدم " وتشيب معه خصلتان.
يَطلُبُ المَرءُ أَن يَنالَ رِضاهُ ... وَرِضاهُ في حاجَةٍ لا تُنال